العدد 1138 - الإثنين 17 أكتوبر 2005م الموافق 14 رمضان 1426هـ

"المرجعية" مصادرة للتعددية

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

يستهل صديقنا الشيخ ناصر الفضالة حديثه لصحيفة "الوسط" المنشور في عدد السبت الفائت 15 أكتوبر/ تشرين الأول بتفسير لتحركه الرامي لتأسيس هيئة لعلماء السنة في البحرين. في هذا التفسير يقول: "في الواقع، أستطيع القول إن مشروعي لا علاقة له بتأسيس هيئة لعلماء السنة في البحرين، لكنه مقترح لأن تكون هناك مرجعية للطائفة السنية، باعتبار أن أهل السنة تنقصهم مرجعية للفئات والمذاهب التي تندرج تحت مظلة أهل السنة والجماعة". مع تفسير كهذا، نحن أمام مسعى ديني/ مذهبي محض لتأسيس نوع من مرجعية دينية/ مذهبية لطائفة من طوائف البلد. لكن الحديث يختتم بإطار يحمل هذا العنوان: "أكبر المشكلات التي يعاني منها أهل السنة والجماعة". فلنقرأ هذه المشكلات: "التشتت والفرقة، عدم وجود مرجعية دينية يجمعون عليها، عدم وجود مرجعية سياسية، عدم مطالبتهم بحقوقهم كما يفعل الآخرون، بروز زعامات شعبية تتحدث باسمهم وهي ليست أهلا لذلك، بروز زعامات شعبية لا تبحث إلا عن مصالحها الشخصية، الخوف من الطوائف الأخرى، البطالة، الإدمان والانحراف، المشكلات الاجتماعية، الترف والدلع وعدم الشعور بالمسئولية بين الشباب". ما بين التفسير الأول في صدر المقابلة وبين قائمة "أكبر المشكلات"، يختلط الديني/ المذهبي بالسياسي. والاستقراء الدقيق سيقودنا إلى إحصاء عدد من الزلات التي يفيض بها الحديث. إن عبارة مثل "عدم المطالبة بحقوقهم كما يفعل الآخرون" تحمل إحالة إلى "الآخر". ولقد تم تشخيص إحدى أبرز مشكلات السنة بأنهم لا يطالبون بحقوقهم كما يفعل الآخرون. ولن يكون لهذه الملاحظة أي قيمة دون استدراك مهم يفرضه عنوان المقابلة "مخطط الاقتتال الشيعي السني... خطير خطير خطير" أو حتى جرعة التطمينات العالية في الحديث من هذا النوع: "اتصل بي الكثير من الإخوة الشيعة "..." ووجدت الكثير منهم من فهم الموضوع بعمقه وأثنى على الفكرة...". ففي هذه العبارات، يتم استدعاء "الآخر" كمحفز أساسي لأمر بات يقترب من الضرورة كرد فعل على ما يقوم به هذا الآخر "الإخوة الشيعة الذين سبقونا كثيرا في وضع الآليات الشعبية". طابع رد الفعل في التحرك كله ليس كفيلا حتى الآن بإيضاح مدى الخطورة في تكريس "المذهب" عوضا عن "المواطنة" كهوية جامعة للبحرينيين سواء بمنطق الشيخ ناصر أو منطق "الإخوة الشيعة الذين سبقونا كثيرا في وضع الآليات الشعبية". فكلتا المقاربتين الأصلية "الشيعية" واللاحقة "السنية" خاطئتان لأنهما تضربان في الصميم الهوية الجامعة للبحرينيين. تضربان دون هوادة الجذر الذي ينتمي إليه السنة والشيعة: "المواطنة". المواطنة مفهوم لا يرد إلا عرضا في سياق التطمينات من مخاطر المطالبات الخاصة بالطائفة سواء لدى الشيعة أو السنة. الأدهى أن أحدا لا تسترعيه مخاطر هذه الثنائية "السنة/ الشيعة" ونوازع العزلة الناضحة فيها إن لم أقل دوافع التعالي عندما يتم تغييب سائر مكونات النسيج الاجتماعي البحريني من أقليات دينية أو عرقية وحتى سياسية غير دينية إلى حد الإقصاء. فهذه الثنائية تقدم تعريفا أقرب للسياج الحديدي لمعنى أن تكون بحرينيا: "إما سنيا أو شيعيا". ثنائية تستحوذ على ذهن الشيخ ناصر بقوة إلى الحد الذي تصيغ حركته بالكامل وتقدم تفسيرها الأهم. تأثير هذه الثنائية واضح في تشخيص المشكلات وفق الشيخ: "عدم مطالبتهم بحقوقهم كما يفعل الآخرون"، "الخوف من الطوائف الأخرى". لكن الشيخ ناصر يزل من جديد عندما يشخص مشكلة أخرى من مشكلات "السنة والجماعة" هي تلك المتمثلة في "عدم وجود مرجعية سياسية". الشيخ ناصر هنا يمارس السياسة من أوسع أبوابها. فهو لا يرى في البحرين غير سنة وشيعة. وعليه فإن المواطن عندما يمارس حقه الطبيعي في تكوين قناعاته السياسية واختيار انتمائه السياسي فإن هذا كله لن يكون له أي معنى أو قيمة بالنسبة للسني ما لم يكن منضويا تحت هذه المرجعية المذهبية وللشيعي ما لم يكن منضويا تحت مرجعية مذهبية أيضا. الفضالة لا يتحدث عن حق السنة أو الشيعة في التعددية السياسية بل في ضرورة وجود مرجعية مذهبية تتحدث باسمهم. وفي تأكيد إضافي لهذا المسعى يشخص أيضا كمشكلة رئيسية "بروز زعامات شعبية تتحدث باسمهم وهي ليست أهلا لذلك". ويعود من جديد لتأكيد ذلك في مكان آخر "بروز زعامات شعبية لا تبحث إلا عن مصالحها الشخصية". وإذا كان من حق الشيخ مثله مثل أي مواطن انتقاد الزعامات والانتهازيين، فإن هذا لا يعطيه الحق في إلغاء حق مواطنيه في الحرية والاختيار أي في التعددية عبر فرض مجموعة من رجال الدين لكي تتحدث باسم السنة أسوة "بالإخوة الشيعة الذين سبقونا كثيرا في تأسيس الآليات الشعبية". إنني أعرف جلهم وأحترمهم ففيهم الأصدقاء وفيهم الموقرون بحكم العمر والمكانة، لكنني أعلن أن هذه المرجعية إذا ما قامت لن تنطق باسمي دينية كانت أم سياسية. فمن له الحق في أن يتحدث باسمي أختاره أنا عبر صندوق الاقتراع. وطالما شخص الفضالة "اهلية الزعماء" كإحدى مشكلات السنة وفق ما يراه، فإن هذا لا يعطيه أي حق من أي نوع في فرض أي قيادة تمثل الطائفة لا دينيا ولا سياسيا بعيدا عن حق الاختيار، أي بعيدا عن صندوق الاقتراع وحق الناس في اختيار ممثليهم. لكن التهافت يبدو واضحا عندما نقرأ مشكلات يعاني منها السنة مثلما جاءت في الإطار: "البطالة، الإدمان والانحراف، المشكلات الاجتماعية". الآن جاء دور الضحك، فهذه المشكلات لا يعاني منها في البحرين سوى "أهل السنة والجماعة" فقط. فالبطالة ليست مشكلة وطنية بل مشكلة طائفية يعاني منها السنة فقط. وحلها ليس رهنا بإصلاح سوق العمل أو الإصلاح الاقتصادي أو التوزيع العادل للثروة وفتح آفاق للنمو الاقتصادي لجميع المواطنين بل في قيام مرجعية دينية للطائفة السنية لكي تحل مشكلة بطالة السنة الذين يعانون "الترف والدلع وعدم الشعور بالمسئولية بين الشباب". في غمرة هذا كله، يفرض علينا الحديث مسارا واحدا للتعامل مع أفكاره، إنه يأخذنا نحو مستقبل لا نتصور فيه إلا أسوأ الكوابيس: أن يعالج المواطنون مشكلاتهم باعتبارهم سنة أو شيعة قبل أن يكونوا مواطنين في المقام الأول. أترون المسار الخطير الذي يأخذنا إليه منطق الطوائف سواء لدى السنة أو الشيعة على حد سواء؟

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 1138 - الإثنين 17 أكتوبر 2005م الموافق 14 رمضان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً