العدد 1140 - الأربعاء 19 أكتوبر 2005م الموافق 16 رمضان 1426هـ

دماء أطفال العراق بين الشط وتجار الموت والحرب

عبدالهادي مرهون comments [at] alwasatnews.com

يجرفنا الحنين إلى العراق وشعبه، والصداقات والعشرة الجميلة التي تكونت مع أبناء الرافدين وبين جنباته، وزمالات جامعاته وإلى قصائد شعرائه وكتابات مثقفيه وزيارة مقدساته، يقع كل ذلك الحنين ليعصر الفؤاد ويوجع القلب والعاطفة حين نشاهد دماء الأطفال والعمال والكسبة تسيل هدرا على الشط، ليس هو شعرا منثورا هذا الذي نكتب بل هو وجع المقهور المكبوت على ما نرى ونشاهد من عنف وإرهاب، وكله يؤدي إلى نتيجة واحدة، إما موت الأطفال جوعا أو بفعل الإرهاب التكفيري الأسود أو على أيدي وسلاح قوات الاحتلال الأميركي. والمستهدف في كل الأحوال، هو الإنسان العراقي وعلى الخصوص الكادح الذي لا يملك من دنياه شبرا، ولا يحلم بغير تحصيل لقمة عيش شريف له ولعياله والوقوف في طوابير العمال والكادحين. لكن المتتبع للحال العراقية الراهنة يجد أنها لم تبدأ اليوم بل إنها تشكلت مع مجيء الدكتاتورية وتسلطها على رقاب العراقيين منذ العام ،1968 ومع كل ما جرى لهذا الشعب المنكوب من مذابح جعلت المقابر الجماعية منتشرة من الجنوب إلى الشمال وتهجير 4 ملايين عراقي تماثل مصائرهم ملايين الفلسطينيين المهجرين على أيدي قوات الاحتلال الصهيوني، إلا أن المفجع في الأمر ما أصبح معروفا حديثا من استغلال أطراف سياسية دولية رفيعة المستوى في منظمة الأمم المتحدة لبرامج المنظمة الدولية "النفط مقابل الغذاء" المخصص لمساعدة العراقيين وتحت غطاء المشاعر الإنسانية، بينما الهدف المشاركة في سرقة اللقمة من فم أطفال هذا الشعب المنكوب، إذ كشف عن تورط دول وهيئات وأفراد في سرقة قوت العراقيين الذين كانوا مطوقين بناري الديكتاتورية والحصار الدولي. وقد تبين من خلال الوثائق التي تكشفت بعد تحقيقات مستقلة عدة أن برنامج "النفط مقابل الغذاء أو النفط مقابل الدماء" قد سمح لديكتاتور العراق السابق بتحويل مئات ملايين الدولارات بين أعوام 1996 و2003 وقد شملت تلك التحويلات والمنح مسئولين كبارا في الأمم المتحدة قبضوا عمولات كبيرة وعلى نحو خاص مسئول البرنامج بينون سيفان، كما شمل أيضا سياسيين أجانب منهم الفرنسيون لاسيما الذين استفادوا من رشا النظام، أما السياسيون العرب ومن دول أخرى متعددة ومن بينهم خليجيون أيضا وفئات أخرى ضمت كتابا وفنانين فقد تلقوا كوبونات نفط على حساب الشعب العراقي، ويمكننا هنا التحدث عن تحويل المنظمة الدولية أيضا لعشرات المليارات في تلك الفترة عبر عمل لجنة الأمم المتحدة للتعويضات التي يقع مقرها في جنيف بذريعة تعويض أولئك الذين عانوا من المغامرات الخارجية الهوجاء للنظام والتي تلاعبت واشنطن وغيرها من الدول بحسابات تلك اللجنة على نحو واسع واقتطعت مبالغ تصل إلى 30 في المئة من موارد العراق النفطية، حتى أنه تم دفع مبلغ 200 مليون دولار في أبريل/ نيسان 2005 في الوقت الذي تحاول الحكومة العراقية الاقتراض من الخارج من دون جدوى أو المطالبة بإلغاء أو حتى جدولة الديون. لقد أساءت الأمم المتحدة والدول الكبرى في مجلس الأمن تقدير النتائج الكارثية لتلك العقوبات على المجتمع العراقي نفسه، فقد تدهورت البنى التحتية شيئا فشيئا على رغم الجهد الخارق الذي بذله التقنيون العراقيون للمحافظة عليها، أما الخدمات الأساسية للمواطنين مثل محطات الكهرباء ومياه الشرب فقد أصبحت هشة، وتحطمت هياكل الدولة ومؤسساتها حتى أن الأمر لم يتطلب سوى ضربة واحدة كي ينهار النظام الفاسد، فقد كان مهترئا أصلا على رغم أنه كان يكابر ويرتكب الفظاعات ضد شعبه في الداخل ويرشي السياسيين الدوليين حتى يضمن البقاء والتسلط على رقاب مواطنيه، وهو درس بليغ لجميع الأنظمة العربية التي إن استمرت في انتهاج سياسات تسلطية مماثلة مع شعوبها فستضعف جبهاتها الداخلية ولن تصمد أمام التدخلات الخارجية. ومع كل ذلك، يدرك جميع المتابعين أن تلك العقوبات الدولية لم تعاقب حكام النظام الذين استمروا في التحكم بالموارد المهمة، كما لم تضعف قبضة النظام على رقاب المواطنين بل إن هذه العقوبات سمحت للنظام بالتحكم في كل شيء، وكان بوسعه البقاء عدة سنوات أخرى، لكن المؤلم أن تداعيات العقوبات والحرب التي تلت أدت إلى سقوط مئات الآلاف من الضحايا المدنيين، وانتهت إلى زعزعة إحدى أهم الدول في المنطقة، وإطلاق الغرائز والنزعات المذهبية والطائفية وتصديرها للمحيط الإقليمي، ودفع المنطقة نحو استقطابات جديدة عرقية ومذهبية وطائفية. وأدى الاستهتار بالمصالح العراقية من قبل مافيات شركات النفط والسلاح واستشراء منظمات وشخوص الفساد ورأس المال المتوحش وتوابعهم من البرجوازية المحلية إلى إحكام السيطرة على مفاصل الاقتصاد العراقي حتى أن البنتاغون وبأمر من وزير الدفاع الأميركي رامسفيلد رفض تقديم الكشوفات المطلوبة للتعرف على الكيفية التي صرفت فيها الأموال العراقية التي كانت تحت إدارة الاحتلال ويقدرها خبراء المال بأكثر من 45 مليار دولار، عدا عن استحواذ شركة هاليبرتون وفروعها "براون أند روت" على غالبية العقود التي يقول المتابعون ان لا أحد في العراق يستطيع أن يفسخ العقود مع الشركة بما فيها الحكومة العراقية المنتخبة لخمس سنوات مقبلة. ولم يقتصر الأمر في استغلال ثروات العراق على المسئولين في الأمم المتحدة، لكن تعداه إلى كبار السياسيين وخصوصا في الولايات المتحدة إذ تمارس هذه الدولة العظمى القتل والتدمير خارج حدودها وتعتدي على غيرها من الشعوب، وترسل الأساطيل والبوارج والغواصات، وبعد أن تدمر كل المقدرات وتكذب على شعبها في الداخل وشعوب العالم في الخارج، يعتذر ويتملق سياسيوها الكبار ويظهرون بمظهر الإنسانيين للتغطية على ممارساتهم المخزية. بعد كل الدمار والخراب الذي تسببوا فيه ودفعهم عنوة الدول الأخرى في الأمم المتحدة ومجلس الأمن على إصدار القرارات من خلال الترغيب والترهيب بحق الدول الأخرى، وكذلك أكاذيب السياسيين الأميركيين من الرئيس حتى وزير الخارجية وبقية مستشاري الأمن القومي اعتمادا على تزييف أشرطة صوتية أو صور أقمار صناعية مفتعلة فقط لأنها تخدم غرضها لتقنع دول العالم عنوة، لا بل وتسخير كل الأجهزة الذكية منها والغبية، وفي الطليعة منها جهاز استخباراتها ةء بتقارير ملفقة، والدليل على ذلك سقوط مبررات غزو واحتلال العراق الذي دمرت الولايات المتحدة مقدراته وسرقت آثار حضارته واستباحت أرضه وفككت هياكل دولته وجيشه، ثم يخرج علينا بعض أركان حكومة الأكاذيب الأميركية بتبريرات سمجة وأعذار أقل ما يمكن القول فيها إنها استخفاف بعقول كل هذا العالم وشعوب الأرض، فنجد وزير الخارجية الأميركي السابق الجنرال كولن باول بعد أن قاد أكبر الحملات الدبلوماسية الأميركية وأحكم الطوق على العراق وهدد حكومات العرب والعالم لكي تتكتل ضده، يخرج علينا بكلمات الأسف لأنه اشترك في أكاذيب في مجلس الأمن، وقبلها أيضا هو بذاته قاد الحرب العسكرية ضد العراق على خلفية الغزو العراقي للكويت، وهي حرب لم تقف عند حدود إخراج قوات صدام من هذا البلد العربي، إنما ذهبت بعيدا لضرب مقدرات العراق وفرض الحصار على شعبه. فنحن إذا أمام لعبة أمم جديدة لن توفر قيما دبلوماسية ولا إنسانية ولا أخلاقية إلا وستحطمها، وتضع بديلا لها على أسس جديدة قوامها المنفعة والسيطرة على ثروات الشعوب وإن تطلب الأمر إسالة دماء الأطفال على الشط وكذب رئيس أميركا على شعبه وشعوب الأرض قاطبة. إن الأمر يتعلق بخطة استراتيجية أميركية محكمة، الغرض منها السيطرة على المنطقة والتحكم في ثرواتها من البوابة العراقية، في الإطار الأشمل للتصور الأميركي لإدارة العالم كله من مركز واحد، ووضع اليد على مصادر الطاقة والثروة في هذا العالم، والحيلولة دون تمكن البلدان والشعوب الأخرى من بناء مستقبلها بما يتفق ومصالحها الوطنية وحاجاتها التنموية. * النائب الأول لرئيس مجلس النواب

العدد 1140 - الأربعاء 19 أكتوبر 2005م الموافق 16 رمضان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً