العدد 1145 - الإثنين 24 أكتوبر 2005م الموافق 21 رمضان 1426هـ

نمو طبيعي أم طفرات؟

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

في سبعينات القرن الماضي، كان الطلاب البحرينيون الدارسون في الكويت يحصلون على منحة تصل الى 10 دنانير كويتية في الشهر. حوالي 11 دينارا بحرينيا. كانت حكومة الكويت تتكفل بكل شيء، بالسكن والإعاشة. وكانت أكثر التخصصات الشائعة في ذلك الوقت: علم النفس والفلسفة والاجتماع. تغير هذا بالطبع صعودا منذ الثمانينات، تغيرت وجهات السفر وتغيرت التخصصات وتضخمت كلفة التعليم. لقد غدا استثمارا كبيرا وهائلا بل وطالته سياسات الخصخصة. لقد رفعت الدولة يدها ولم تعد ترسل الا أعدادا قليلة من المتفوقين ذوي المعدلات العالية جدا ولدراسة تخصصات نادرة. وفي مقابل اتساع الفئة الوسطى قليلا، فإن التعليم والاستثمار في التعليم بات ضمن دورة رأس المال في البلد: القروض المصرفية. لنر ثمار هذا الاستثمار الهائل: تجد نفسك أمام شبان من الجنسين في الثالثة والعشرين أو نحوها يطلبون وظائف ذات دوام واحد ومنصب وراتب يوازي في قيمته مفردات المنصب المطلوب. وعندما تدقق في القدرات ستجد أنها عادية جدا ولا تتميز بأي شيء عما يملكه مئات آخرون. أما آباؤهم فقد سافروا للدراسة إما ببعثات استحقوها نظير تفوقهم في وقت كانت الحكومة تحتاج فيه إلى آلاف الكوادر. أو ان أهاليهم ابتعثوهم للدراسة على حسابهم. لكن هذا يحتاج إلى تفسير، فان يذهب الطلاب إلى بلدان مثل سورية والهند والعراق والكويت، فإن هذا لم يكن ليعني أن ما سينفقه الأهل على أبنائهم ليتعدى عشرات الدنانير في الشهر. سورية والكويت كانتا بلدين يوفران لأبناء الدول الأخرى منحا وقبولا في الجامعات، اما كلفة المعيشة فلم تكن لترهق مداخيل عائلات كان أربابها يعملون في وظائف لم يزد دخلها على 50 أو 60 دينارا في الشهر. كانت عشرة دنانير بحرينية تكفي أولئك الذين يعيشون في الكويت، ولربما ضعفها لأولئك الذين يدرسون في سورية. إن المقارنة تتعدى هذا بكثير. فأولئك الذين درسوا في السبعينات والستينات لم يكونوا فتية ولا فتيات مدللين، بل انهم جاءوا من عائلات فقيرة ومتوسطة وكانوا يذهبون الى المدارس سيرا على الأقدام. وكانت الفتيات من ذلك النوع الذي ينغمس في أعمال المنزل من طبخ وغسيل ونظافة ولا يملكن ترف النزهات التي لا تتوقف ولا قيادة السيارات أو الجلوس في المقاهي والمطاعم الا نادرا. بل كن يستخدمن وسائل المواصلات العامة، حافلات متهالكة وقديمة. لست ضد الرفاهية بالمطلق، لكن يستوقفني ما تفرزه من قيم. ان هاتيك الفتيات اللواتي كانت أرجلهن تحفى طلبا للوظائف من وزارة إلى أخرى ومن مكان إلى آخر مثلهن مثل الشبان، حل مكانهن اليوم شبان وشابات يحتقرون وسائل المواصلات العامة. وفيما كان آباؤهم يبدأون حياتهم العملية والمهنية برواتب متدنية وفي وظائف عادية ويعملون لساعات طويلة دون تذمر، فان شبان وشابات الجيل الجديد يطلبون وظائف من دوام واحد تحاشيا للتعب والمشقة. إن الكلفة الباهظة للتعليم الجامعي اليوم، من شأنها أن تحدث المزيد من الخلل والتشويش في أذهان الجيل الجديد. فالانفاق الشهري لابن واحد في العائلة لن يقل عن 1000 دينار شهريا. ومقارنة هذا الرقم بعشرة دنانير فيما مضى، تظهر المدى الذي تضخمت فيه التكاليف. وفي نهاية المطاف ستوضع الفاتورة أمام رب الأسرة: أكثر من 30 ألف دينار. إن هذا يدفع الشاب نفسه وأهله إلى النظر بحذر شديد إلى الوظائف المعروضة لأن وطأة الفاتورة تربك مفهوم "الوظيفة المناسبة". فهذه الوظيفة المناسبة لن ينظر إليها الا من باب واحد: الراتب. لكن هذا سيبقى مشروعا إلى حد كبير لولا أنه بات يؤثر حتى على مفهوم المثابرة نفسه. وعندما أجد نفسي أمام هذه المقارنة بين أجيال الأمس وأجيال اليوم، فإن عبارة واحدة تفرض نفسها على الذهن: "الفقر ينجب المثابرين والرفاهية تنجب الكسالى...". هم لا يمزحون، بل شبان من الجنسين متخرجون من الجامعات ولديهم آمال وطموحات عريضة وأحلام بتأسيس مشروعاتهم الخاصة أيضا. لكنهم لا يريدون أعمالا متعبة في بداية حياتهم العملية. وهذا يحيلنا دوما إلى آبائهم وأمهاتهم الذين كانوا يبحثون عن أية وظيفة. وكانوا يمضون في الوظيفة سنين طويلة قبل أن تبدأ فرص الترقي تلوح أمامهم. لن نعدم الأمثلة المعاكسة، شبان وشابات مكافحون أيضا يعملون ساعات طويلة ويملكون مثابرة. لكن هؤلاء لا يلبثون ان يصابوا أيضا بالتشوش نفسه حيال هذه المفاهيم وهم يرون أمامهم أن المثابرة والكفاءة ليست العنصر الحاسم في الترقي والحصول على الوظائف. عند هذا الحد يمتد التشويش اليهم أنفسهم، إلى مفهوم المثابرة والتطوير الذاتي الذي يصاب بالخلل في دواخلهم. وفي المحصلة النهائية لن نجد من هذا الخليط المتباين سوى أن الضرر لم يلحق إلا بمفهوم المثابرة نفسه. أي بعبارة أخرى مفهوم النمو الطبيعي. لو أمعنا النظر مليا ودققنا في كل ما نعيشه من ظواهر السلوك وانماط التفكير السائد اليوم لن نجد أنفسنا في النهاية إلا أمام نتيجة واحدة: من الصعب الإشارة إلى نمو طبيعي في حياتنا بل طفرات واختلالات سرعان ما تعود إلى حجمها الطبيعي لكن بعد أن تكون قد راكمت من المفاهيم الخطأ الشيء الكثير. ستجدون هذا في السياسة، الاقتصاد، التعليم وسوق العمل والعلاقات الاجتماعية أيضا

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 1145 - الإثنين 24 أكتوبر 2005م الموافق 21 رمضان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً