العدد 1164 - السبت 12 نوفمبر 2005م الموافق 10 شوال 1426هـ

منظمات المجتمع المدني... دعاة أم مروجون للغزاة؟!

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

تجمع منظمات "المجتمع المدني" على أنها "البلسم" الشافي للنزاع المزمن بين السلطة وجمهور الناس، مفترضة ضمنا أن السلطة مسكونة بالقمع والاستبداد دوما، فيما جمهور العامة من الناس لا سبيل له للوصول إلى منابع الثروة والقوة. ومن هنا فإن تلك المنظمات ما كانت لتقوم أو تنشأ إلا لتشكل البديل الخلاصي لعقم الصراع العنيف الذي ظل دائرا عبر العهود الطويلة بين حكام طغاة ومتمردين غلاة، وتاليا من أجل منع تعرض الأوطان لهجوم الطامعين الغزاة بمقدرات الأمم والأوطان. في الفترة بين 7 و8 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري اجتمع المئات من منظمات "المجتمع المدني" في العاصمة البحرينية المنامة، وذلك في إطار ما سموه بالمؤتمر الموازي "لمنتدى المستقبل"، وهو المنتدى الذي أطلقت فكرته الولايات المتحدة الأميركية، ومن ثم تحول ليصبح مبادرة تجمع الدول الثماني الصناعية الكبرى، قبل سنتين والمكلف لبحث مستقبل الحريات والإصلاحات والديمقراطية في منطقة فضلت واشنطن أن تسميها بـ "الشرق الأوسط الكبير" أو الموسع، متجنبة بوعي مقصود مصطلحي العالم العربي والإسلامي لغاية في نفس "يعقوب". ولما كان "المنتدى الموازي" قد وضع نفسه وسيطا مفترضا بين توق جمهور العامة لإصلاح جذري صعب المنال وتثاقل عموم السلطات عن القيام بالإصلاحات الضرورية والملحة، فإن من ملزومات ذلك الدور المفترض والمناط بهذه المنظمات المدنية هو استقلاليتها وبعدها قدر الإمكان عن مصادر قوة الحاكم وشبهة الاستقواء بقوى الاحتكار والهيمنة والنفوذ العالمي. لكن منتدى البحرين الموازي وعلى رغم غنى الأبحاث التي عرضت فيه وقوة الأصوات التي نادت بضرورة نأيه عن مواطن الشهبات، ومساعي الكادر الرئيسي المنظم له الحثيثة لتجنيبه تلك "المطبات" فإن ثمة من حاول من "المتنفذين" المخضرمين في ساحات المناورة أن يدفع بالمنتدى إلى حيث لا يجوز أن يذهب! غير أنه نجح في النهاية وبامتياز، وهكذا ذهبت كل توصيات المؤتمر الموازي وكل جهود المتنفذين الذين يفترض أن يكونوا أقوى من ذلك "المتنفذ" في مهب الرياح. فكان أن أعلنت إحدى الدول تخصيص 10 ملايين دولار "وقفية" لدعم منظمات المجتمع المدني، ما دفع بالأنظار العامة إلى الاعتقاد بأن الزخم الاستقلالي لهذه المنظمات قد أصبح في دائرة حصار السلطات التي كان يفترض أن يكون منفكا عنها بالأساس. وما زاد في الطين بلة هو أن وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأميركية، كانت قد أعلنت عشية اجتماع المؤتمر الحكومي الأصلي المقرر في 11 - 12 نوفمبر بأن بلادها قررت تخصيص 50 مليون دولار لدعم دمقرطة الشرق الأوسط، والتي سيتم صرف الكثير منها عبر قنوات المجتمع المدني كما هو متوقع، ما جعل دائرة الحصار والشبهات تتسع حول الدور المستقل والحيادي الذي يمكن أن تلعبه تلك المنظمات أو المهمة التي أوكلت نفسها بالقيام بها. إن هذا الإشكال كما يتوقع له الكثير من المراقبين يتجه نحو الاتساع والتعقيد أكثر فأكثر كلما تصاعدت حدة الاستقطابات والتوترات بين الطغاة من الحكام والغلاة، من المتمردين والغزاة، من الطامعين في مقدرات وثروات أوطاننا وبلداننا. فالغزاة القدامى يظهرون اليوم بلباس "محررين" وخلاصيين ودعاة ترويج للديمقراطية والحرية والتقدم، وهي شعارات لا يمكن بسهولة أن يتجاهلها جمهور المهتمين بتقدم الأمم والشعوب من جمهور العامة كما مجموعة منظمات "المجتمع المدني" التي تكفلت بدور البديل الخلاصي. والحكام المستبدون "سابقا" بدأوا شيئا فشيئا "يتسللون" إلى دوائر المطالبات الشعبية ويقبلون أكثر فأكثر على خطوات تصالحية مع قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى، ما يجعل من مهمة الاستقلال لمنظمات المجتمع المدني والمؤتمر الموازي المذكور أكثر صعوبة وحرجا. مراقبون لبنانيون "خبثاء" لكنهم ظريفون علقوا على حال التداخل الآنفة الذكر باستحضارهم برنامجا داعيا كان يديره زياد الرحباني ابن المطربة الشهيرة فيروز أيام الحرب اللبنانية الأهلية تحت عنوان "بعدنا طيبين... قول... الله" عندما عرض يوما المعضلة التي كان يعيشها وقتئذ دعاة وقف الحرب من التقدميين اللبنانيين آنذاك بسبب تعمد أمراء الحرب الأهلية برفع شعارات من جنس ونوع الشعارات التي يرفعها خصومهم من القوى الشعبية المستقلة لغرض التشويش على خصومهم ومنعهم من تحقيق أهدافهم خارج الإطار والأهداف التي اندلعت من أجلها الحرب، ما دفع بزياد الرحباني يومها إلى الصراخ، قائلا: "اخرجوا من بين صفوفنا واصطفوا في الطرف الآخر من الشارع أيها النواب والوزراء الحكوميون حتى نعرف أين نحن من مهمتنا الأصلية!"، في إشارة ظريفة إلى ما صار يعرف فيما بعد في قاموس الحرب الأهلية اللبنانية بمقولة "اختلط الحابل بالنابل". أقول، إن منظمات المجتمع الأهلي والمدني المستقلة وغير المتنفذة تجد نفسها اليوم في أحرج أيامها وأوقاتها وهي تتحرك فيما يشبه بحقول الألغام، لا بل إن البساط من تحت أرجلها يكاد يسحب تماما اليوم بعد أن تمت مصادرة شعاراتها ومطالباتها كافة من قبل الغزاة الطامعين بـ "إصلاحات" من جنس مصالحهم وطموحاتهم، وبعد أن تم "احتلال" كل الأرضية التي يستندون إليها ويتكئون عليها، الأمر الذي جعل من مهمتهم الاستقلالية عن مثلث الغزاة - الطغاة - الغلاة في أصعب أوقاتها! ثمة تحديات جدية إذا تتجه إلى الظهور أمام منظمات المجتمع المدني في ظل حرب الشعارات والأفكار والمقولات "الإصلاحية" التي بدت تأخذ طريقها للتعميم في ساحات العمل السياسي والحقوقي والدبلوماسي والفكري. وحدهم الذين سيعضون على الجروح ويمسكون بالمبادئ حتى لو كانت محمرة ويقبلون بالقليل من الدعم الشعبي الخالي من الشبهات لهم، هم الذين سينجحون في امتحان الاستقلالية كما في امتحان المهمة الخلاصية والإنقاذية، أما المخضرمون في اللعب على حبال الوصايات والتبعيات والانقيادات فإنهم سرعان ما سيتحولون إلى رديف مذموم للغزاة وزمار منبوذ للطغاة ومروج رخيص للغلاة، بعد أن كان يفترض بهم أن يكونوا نموذجا صالحا للدعاة.

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 1164 - السبت 12 نوفمبر 2005م الموافق 10 شوال 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً