العدد 1172 - الأحد 20 نوفمبر 2005م الموافق 18 شوال 1426هـ

الشعوب العربية... والعدالة المغيبة

عبدالهادي مرهون comments [at] alwasatnews.com

توق الشعوب العربية - جماعات وأفراد في مختلف الأقطار - إلى العدالة ونزاهة القضاء قد بدا واضحا وجليا في الشهرين الأخيرين في ضوء متابعة مجريات عمل لجنة التحقيق الدولية برئاسة القاضي الألماني ديتليف ميليس، التي شكلها مجلس الأمن للتوصل إلى دوافع ومرتكبي الجريمة السياسية الشنيعة التي أدت إلى مقتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وهي امتداد للطرق الهمجية التي تتم بها تصفية الخصوم في العالم العربي، بالتفجير أو الدهس أو السم... تعددت الأسباب والموت واحد! وهذه المتابعة الشعبية فضلا عن الرسمية لأعمال لجنة التحقيق تعكس بجلاء انعدام الثقة في استقلالية ونزاهة القضاء العربي وهيمنة السلطات الحكومية والمخابراتية عليه. وإذا صح ما جاء من حيثيات وتفاصيل وردت في التقرير فإنه يعبر أيضا عن تدني الممارسة السياسية والإنحطاط الأخلاقي الذي بلغته قوى المخابرات ومراكز القوى الحاكمة الخفية والعلنية التي استمرأت العمل في الظلام مطلقة اليدين دونما رقيب أو حسيب، بحجة الحفاظ على الأمن الوطني والقومي وصد العدو الصهيوني، وهي لم تفلح في هذا ولا ذاك، والدليل كل تلك الاختراقات الأجنبية المتتالية في 22 قطرا عربيا. والثابت الآن أن التحقيق الذي استند لأول مرة على قرارات دولية ومحققين أجانب توصل إلى مؤشرات قد تدل على مرتكبي الجريمة التي هزت الوجدان العربي، ولذلك فقد بدأت الشعوب العربية تراجع مسلسل الذاكرة التي أثقلتها الحوادث وسجلت ضد مجهول، أو أنها بقيت غامضة مثل مقتل المناضل المغربي المهدي بن بركة في المغرب وعبدالكريم قاسم في العراق واختفاء الإمام السيد موسى الصدر في ليبيا ومقتل محمد بونفور وجميل العلي وسعيد العويناتي في البحرين، والزعيم الوطني الكبير كمال جنبلاط وجورج حاوي وسمير قصير في لبنان. وقبلهم وبعدهم كثير من المواطنين العرب الذين قتلوا أو اختطفوا ممن لم نطلع على تقرير يوضح بجلاء اسم أو جهة قاتليهم أصحاب الفعلة الشنيعة في الظلام الدامس. ولذلك نرى شعوبنا العربية وهي تتابع بدقة مجريات عمل لجنة ميليس وتطالب في إلحاح، بإصلاح الأنظمة القضائية العربية التي لم تفلح في جلاء حقيقة أية عملية اغتيال على كثرتها وبشاعة أساليب تنفيذها، ما رفع الستار عن فساد الطبقة السياسية، إذ وردت أسماء كثيرة لشخصيات وأحزاب ضالعة في عمليات الاغتيال والتصفيات من خلال تعدد الأجهزة الأمنية وتداخل مهماتها وتقاطعها مع بعضها مثل الحرس الجمهوري أو الملكي، المخابرات، التنصت، أمن الدولة، المخابرات العسكرية. وكل هذه الأجهزة للأسف لا هم لها إلا تعطيل وتضليل العدالة، فهي لم تنجح في حماية الأوطان العربية ولم تصد جيوش الاحتلال لا في فلسطين ولا في العراق. والتقرير المبدئي الذي أصدره ميليس استغرق من العمل أربعة أشهر فقط واحتوى على 57 صفحة، لكنه تضمن الكثير من المعلومات قد تكفي لبدء محاكمة لبنانية أو دولية مشتركة، ربما يعقبها اعتقال لبنانيين وقد يحصل من جرائها الأميركيون على مبررات وضوء أخضر لتشديد الخناق على سورية من مختلف الاتجاهات، مع أن مهمة اللجنة بحسب المراقبين ليست توجيه اتهامات بل توفير عناصر اتهام وشك ضد الجناة، والباقي هو مهمة المحكمة التي ستشكل فيما بعد لتقرر إن كان المهتمون مذنبين أم أبرياء. وستحتاج معه المحكمة إلى تقويم ودراسة المعطيات الجرمية والسياسات أيضا بعناية شديدة لأن تداعيات المسألة قد طالت منذ الآن ليس أسماء الأشخاص والمسئولين الأمنيين في سورية ولبنان فقط، بل أدت للأسف إلى تدهور في العلاقات بين القطرين الشقيقين انعكست على تبادل الاتهامات واشتداد الصراخ والتوتر بينهما على الطريقة العربية. وهي تمر الآن بمرحلة سوء ظن وتشنج ربما يعاني منها أبناء الشعبين الشقيقين. والعامل الأخطر هو توجه الأنظار الدولية نحو سورية وفي طليعتها التحالف الذي بدأ يتشكل من الولايات المتحدة وبريطانيا ومعهم هذه المرة فرنسا التي تمنعت سابقا عن الانضمام إلى تحالف الحرب ضد العراق. ومن اطلع على شهادة وزيرة الخارجية الاميركية كوندليزا رايس في الكونغرس فسيجد أنها أوضحت خبايا كثيرة ليس من المستبعد معها ان تصل الولايات المتحدة إلى استخدام مجلس الأمن للمطالبة بتطبيق عقوبات الباب السابع تمهيدا لعزل سورية شمالا من تركيا، وشرقا من العراق المحتل أميركيا، وجنوبا من الكيان الصهيوني والأردن لإنهاكها قبل شن العدوان عليها فعليا. ومن يستمع هذه الأيام إلى مطالب الرئيس الأميركي بوش لسورية "بالتعاون الكامل" يدرك مرامي هذا الطلب المستحيل تنفيذه سياسيا. وندرك أن الولايات المتحدة لديها مشروعها الخاص لإعادة هيكلية المنطقة وتقسيمها عموديا وأفقيا وربما تشطيرها أيضا إلى اثنيات وأعراق وقوميات، وإن استدعت الضرورة إلى لهجات وأديان ومذاهب. ولذلك علينا أن نبحث في سر تلاحق القرارات الدولية على سورية بشأن لبنان وهي التي بلغت أكثر من قرار في أشهر محدودة، ربما يكون من بعض دواعيها التغطية على الحرج الأميركي جراء تعثر خطته في العراق وانكشاف سياسته في المنطقة، لكن السؤال الملح مع إدراك كل هذه الطبيعة العدوانية في المشروع الأميركي: لماذا راكم السوريون كل تلك الأخطاء المتكررة في سورية ذاتها ولبنان الذي كان تحت وصايتها الفعلية ومن ضمن تلك الأخطاء الضغط لتجديد رئيس الجمهورية؟ هناك ترقب لبناني امتد ليصبح ترقباعربيا لانتظار استكمال الفترة الثانية لنتائج التحقيق سياسيا وجنائيا وقضائيا لأنه تقرير مركب، مع أنه كما يرى مراقبون عدليون لم يرق إلى المستوى المأمول، غير أنه تضمن أدلة يستطيع القضاء اللبناني متابعة التحقيق فيها لمحاكمة من يثبت تورطهم في الجريمة. وإذا أصر السوريون على رفض نتائج التحقيق تحت أية ذريعة، فستتضرر العلاقات السورية مع الدول العربية كالسعودية ومصر اللتين دعمتا نتائج تحقيق اللجنة الأممية، لأن نتيجة التحقيق التي أوردها ميليس كانت متوقعة، وبالذات بعد سلسلة توقيفات المسئولين الكبار في الأجهزة الأمنية اللبنانية، وإن كان التقرير قد تعدى ذلك ووصل إلى مستويات سياسية في منظمات كالأحباش والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة. إن الولايات المتحدة، ومعها بريطانيا وفرنسا، لا تقرأ من واقع لبنان أكثر من 20 في المئة من واقعه الوطني والديموغرافي، وذلك بحسبان إمعانهم في تدخلهم الواضح في الشأن اللبناني هذه الأيام وبمعيتهم الكيان الصهيوني، إذ بلغت بهم الوقاحة حد المطالبة بتغيير الاعلام العربية وحذف النجمة منها، بينما هم يرون العلم الصهيوني يرفرف بنجمة داوود ولونيه اللذين يدلان على عقيدة توسع الدولة العبرية من النيل إلى الفرات من دون أن يرف لهم جفن. أما الذي سيستعصي عليهم فهو لبنان الذي صنع المقاومة وطرد الصهاينة المحتلين، بينما السياسة العربية لم تكن في وارد إجهاد نفسها قراءة الواقع السياسي فقد كانت تعاني من العشى الليلي، وهي الآن أصيبت بالعمى من خلال المراهنة على الآخر القادم من وراء الحدود ليعيث فسادا في الثوابت العربية. أما الحقيقة المرة الراهنة فهي أن لبنان خرج من الوصاية السورية وهو في طريقه إن استمر الوضع كذلك إلى الوقوع تحت الهيمنة الأميركية والفرنسية من خلال أحصنة طروادة التي تراهن على مختلف الاحتمالات. لقد بلغ العمى الأميركي حد الوهم باعتقاده أن مشكلاته هي مع الأنظمة العربية، ولذلك يستميت في حملها على قبول الكيان الصهيوني والتطبيع معه من خلال التوقيع على اتفاقات سلام ثنائية أو تعددية، بينما الصحيح أن مشكلات أميركا وخلافها هي مع الشعوب العربية والشارع العربي الذي يرفض هذا الكيان المعتدي حتى لو وقعت معه 22 حكومة عربية اتفاقات ذل وهوان. لقد علمت الشعوب العربية باتفاقات سايكس بيكو ورفضتها في الكتب، لكنها قبلتها كواقع سياسي راهن وتعايشت معها على مضض تعايش الضرورة بين الأنظمة السياسية بما فيها القوى الشعبية العربية المدنية، والمرجو ألا تصل هذه الانهيارات إلى الشعوب من خلال تسويغ تغلغل الكيان الصهيوني وتبرير سياساته العدوانية على الدول والشعوب العربية

العدد 1172 - الأحد 20 نوفمبر 2005م الموافق 18 شوال 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً