العدد 118 - الأربعاء 01 يناير 2003م الموافق 27 شوال 1423هـ

الأزمة الإيرانية: آن أوان خروج العلماء من مؤسسة الدولة

بشير موسى نافع comments [at] alwasatnews.com

.

كان ذلك قبل عشر سنوات وقد صعدت إلى طائرة الخطوط الجوية الإيرانية مغادرا العاصمة طهران بعد المشاركة في مؤتمر عن القضية الفلسطينية، وقاصدا اسطنبول. وما ان أعلن قائد الطائرة عن دخول المجال الجوي التركي حتى نهض عدد لا يستهان به من النساء، من الأعمار كافة، من مقاعدهن باتجاه دورات المياه. خلال دقائق كانت جميع النساء اللواتي ذهبن والحجاب يغطي رؤوسهن بدأن في العودة من دون حجاب، في استعراض واضح لملابس نسائية حديثة نسبيا وغطت وجوههن الألوان المختلفة من الزينة. لم تكن الظاهرة ذاتها مصدر دهشة، فقد أصبحت منذ فترة مجال تندر بين مراقبي الشأن الإسلامي - الإيراني، ولكن ما أدهشني فعلا كان عدد النساء اللواتي بادرن بذلك الانقلاب السريع على تقاليد اللباس الإسلامي والتعليمات الرسمية للاجتماع الإيراني.

منذ ذلك الحين شهدت إيران اتساعا، لا يبدو أن هناك حدودا له، في حركة تحدي القوانين الإسلامية ذات البعد الاجتماعي، ابتداء من لباس المرأة، اختلاط الجنسين، انتشار الموسيقى الغربية (بما في ذلك أكثرها تفاهة وانعدام معنى)، مشاهدة قنوات البث التلفازي الأجنبي، الإقبال على أشرطة الفيديو الأميركية الممنوعة، استخدام المخدرات والدعارة المنظمة. ورافق هذه الظاهرة تصاعد في خطاب المعارضة السياسية للنظام الإسلامي، أو عل الأقل لما يسمى بالكتلة المحافظة المسيطرة على مقاليد النظام والحكم. بدأت المعارضة (وما زالت كذلك في معظم الدوائر) في مواجهة سياسات النظام الإسلامي واتجاهه المحافظ من خلال الاستناد إلى الخطاب الإسلامي ذاته، في تبني وجهة النظر القائلة إن نهج المحافظين السياسي لا يعبر عن حقائق الإسلام وقيمه ومقاصده. ولكن هذه المعارضة خرجت خلال العامين الأخيرين، في دوائر أخرى عن الخطاب الإسلامي ومستويات تفسيره وأصبحت تدعو صراحة إلى اعتبار مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان (الفردية والعامة) في سياقها الثقافي الغربي قيما معيارية، أو قيما إنسانية مطلقة لا تحتاج تسويغا فكريا إسلاميا. ومهما كان عدد هذه الأصوات الأخيرة قليلا فإن بروزها وسط جيل شارك في حوادث الثورة الإسلامية أو نشأ في ظل نظامها هو بحد ذاته تطور جدير بالملاحظة.

عبرت هذه المعارضة عن نفسها بانتخاب محمد خاتمي، رجل الدين وأحد شخصيات الثورة الإسلامية، رئيسا للجمهورية الإسلامية، لدورتين متتاليتين، وذلك على أساس من برنامج «إصلاحي» حمل وعودا بالانفتاح الاجتماعي والسياسي على المستوى الداخلي، والتطبيع الدبلوماسي على المستوى الخارجي. بشكل من الأشكال جاء نهجا ليمثل خطوة أخرى على ذات الطريق الذي شقه الرئيس السابق رفسنجاني بعد نهاية الحرب العراقية - الإيرانية. ولكن خطاب خاتمي كان منذ البداية أكثر وضوحا من خطاب سلفه، وفي حين وضع رفسنجاني سياسات الانفتاح السياسي والاجتماعي - الاقتصادي باعتبارها جزءا من مجموعة سياسات عامة جديدة للدولة فإن خاتمي جعلها أولوية أولويات حكمه ومقياس نجاح هذا الحكم أو فشله. كان مقدرا لسياسات خاتمي أن تصطدم بالجناح المحافظ صاحب اليد العليا في مؤسسات الحكم والأمن والقضاء، ليس فقط لما بدا وكأنه توجها راديكاليا للتغيير بل أيضا للتباين الواسع في توجهات وبرامج الملتفين حول الرئيس ومن يحاول التغطي بعباءته. ولكن ما جعل الصدام حتميا كان بلا شك تصاعد حركة المطالبة بالحريات في صفوف الطلاب والانتلجنسيا وقطاعات لا يستهان بها من الطبقة الوسطى، تعززها أصوات ذات وزن كبير داخل مؤسسة العلماء، خصوصا من رجال الخميني السابقين مثل آية الله صانعي وآية الله طاهري، بحيث بات الانقسام يشمل النخبة الحاكمة، رجال الدين والقطاعات الشعبية.

الهدوء النسبي الذي تشهده ساحة التدافع الإيرانية غير مرشح للاستمرار. أولا، لأن احتمالات التوافق بين طرفي الصراع غير واضحة. يرى المحافظون أنفسهم حراسا للحق وفي خصومهم من الليبراليين مجموعة من الببغاوات التي تردد مفاهيم غربية لا تدرك معناها وتستهدف في تصديها لرجال الدين إهانة الإسلام ذاته. بينما يرى الليبراليون خصومهم حفنة من المتسلطين الذين أصبح هدفهم الوحيد هو الحفاظ على السلطة لا الإسلام وقيمه. ثانيا، لأن مشروع التعديل الجزئي للدستور بهدف تعزيز سلطات رئيس الجمهورية، الذي يقوم به خاتمي لمجلس الشورى الإيراني (البرلمان) والذي يتوقع له الحصول على الأصوات الضرورية، سيصطدم في النهاية بمجلس حراسة الدستور الذي بعتبر أحد أهم معاقل الجناح المحافظ وسلاحه التشريعي الرئيس. من دون نجاح خاتمي في تعزيز سلطات منصبه فإن حظوظه في تحقيق الوعود التي أطلقها في حملتيه الانتخابيتين الأولى والثانية تبدو معدومة، وهو ما سيؤدي إلى استقالته أو انهيار الثقة الشعبية به. الأزمة الإيرانية، باختصار، في طريقها للتصاعد، وسيأخذ هذا التصاعد منحى نوعيا مختلفا تماما ان مضت واشنطن في مخططات الهجوم على العراق، ونجحت، ولو حتى على المدى القصير، في تحقيق وجود عسكري وسياسي نافذ في العراق. ليس من الصعب تصور هزيمة ما يعرف بالليبراليين إن اختارت فئات ما في أوساطهم ايصال الأزمة إلى مستوى الحرب الأهلية، فالمؤسسات الأمنية والعسكرية ليست في يدهم، كما أن الدعم الشعبي لهم سيتضاءل إن وضع مستقبل النظام كله على المحك. ولكن ذلك سيعني دخول إيران حقبة من القمع والحكم بالعنف وقوة السلاح وبطش أجهزة الدولة، وليس هذا بالتأكيد ما يريده أغلب المحافظين ولا كان هذا ما أراده مؤسسو الجمهورية الإسلامية.

تقع الأزمة الإيرانية في نطاق مجموعة من القوى والعوامل الموضوعية الخارجة عن ارادة المعسكرات السياسية الإيرانية، وفي نطاق مجموعة أخرى من التصورات الخاطئة لمفهوم النظام الإسلامي السياسي وعلاقة الإسلام بمؤسسة الدولة الحديثة. إن محاولة إقامة فضاء ثقافي واجتماعي إسلامي في بلد صغير نسبيا مثل إيران وفي مواجهة ثقافة عالمية مسيطرة تستند في جوهرها إلى المتعة واللذة وتستجيب للحاجات الإنسانية الأولية بهدف اشباعها وتعظيمها في الآن نفسه هي محاولة شبه مستحيلة. وما تعانيه إيران اليوم هو في أحد وجوهه على الأقل، ما عانته وستعانيه كل محاولة محدودة لتحدي قيم الثقافة السائدة في العالم. إقامة فضاء ثقافي واجتماعي وجمالي بديل يتطلب رقعة جغرافية وبشرية واقتصادية أوسع وأكبر بكثير مما تمثله إيران. من ناحية أخرى، واجهت إيران منذ انتصار الثورة حربا دموية طويلة وضعتها في موقع الدفاع وولدت في صفوف قادتها مشاعر الخوف والعزلة والقطيعة مع عالم بدا (ويبدو) وكأنه عازم على الإيقاع بالجمهورية ونظامها الإسلامي. هذا الاحساس بالاستهداف أدى بالتالي إلى توتر سياسي داخلي وإلى انكفاء على الذات وتخوف مبرر وغير مبرر من محاولات التغيير والتجريب والتجدد.

بيد أن هذا ليس أكثر من وجه أخر للصورة. ففي حين يجمع الإسلاميون على أن المجتمع الإسلامي في جوهره هو مجتمع أخلاقي قبل أن يكون أي شيء آخر، فقد تصور بناة النظام في إيران، مخطئين، أن بالإمكان إقامة مجتمع أخلاقي بقوة القانون والدولة بدلا من أن يكون القانون مجرد حارس لمجتمع استقرت قيمه بالفعل. عندما لا تجد المرأة المسلمة وازعا داخليا لارتداء الحجاب أو الامتناع عن مشاهدة أشرطة الفيديو الأميركية الهابطة، عندما لا يتجسد ضمير جمعي يحدد السقف الأخلاقي للأمة، فإن كل أجهزة الدولة لن تستطيع تحقيق ذلك. إن محاولة استبدال الضمير الجمعي للمجتمع بالقانون وأداة الدولة لن تؤدي إلا إلى اتساع الهوة بين الدولة والمجتمع، ومن ثم إلى حال انهيار كامل للعلاقة التعاقدية بينهما. الأخطر في الحال الإيرانية بالطبع كان اختفاء الحاجز الإسلامي التاريخي بين مؤسسة العلماء وجهاز الدولة الحديثة. والمقصود هنا ليس بنود الدستور التي أعطت لمؤسسة العلماء من الرقابة على الدولة، بل تحول العلماء فعلا إلى حكام وسعيهم الحثيث، محافظين وليبراليين، للسيطرة على جهاز الدولة واستخدام أدواتها لتحقيق رؤاهم. لقد بدأ دخول العلماء إلى جهاز الدولة بشكل غير مقصود لا سيما بعد حركة الاغتيالات الواسعة التي طالت الكثير من كوادر الثورة المدنية في عاميها الأولين. ولكن ما حدث بعد ذلك كان استمرارا واضحا من قبل العلماء لتملك أدوات القوة والقمع الهائلة التي توفرها الدولة الحديثة. في النهاية، أصبح التنافس والتدافع للوصول إلى مواقع الحكم سمة ملازمة للحياة السياسية لمؤسسة العلماء الإيرانيين. هذا على رغم أن التصور الأساسي للإمام الخميني كان في الدعوة إلى عودة العلماء إلى صفوف الشعب بعد أن تحقق انتصار الثورة.

كان لانتشار العلماء الإيرانيين في دوائر الدولة والحكم نتيجتان بارزتان. الأولى، تتعلق بتماهٍ متزايد بين تصور معين للإسلام وسياسات الدولة، عدلا كانت هذه السياسات أو ظلما، ذات علاقة ما بالإسلام أو تتعلق بطبيعة الدولة الحديثة وسعيها للحفاظ على ذاتها. لقد مثل العلماء عبر القرون دور الحارس للشريعة وقيم الدين، وبتوليهم مقاليد السلطة، سلطة تجسدها مؤسسة دولة حديثة مهيمنة، غاب عن العلماء أن الجماعة/ الأمة لا الدولة هي التي تشكل مستودع الشرع وقيم الدين. ومن هنا، بالطبع، جاء الاستخدام الفج وغير المتطابق مع التقاليد التاريخية الإسلامية لإدارة الدولة لفرض تصور معين للدين. النتيجة الثانية كانت أكثر فداحة وخطرا. فخلال سنوات قليلة من تسلمهم مقاليد الحكم تحول العلماء الإيرانيون إلى أسرى للدولة التي ظنوا أنهم يسيطرون عليها. المسألة المهمة في الخطاب السياسي الإسلامي المعاصر، داخل إيران وخارجها، أن العقل السياسي الإسلامي لم يستجلِ بعدُ كنه الدولة الحديثة، وتكوينها المركزي، وهيمنتها على المجتمع، واحتكارها للسلطة والقوة، ومداها التحكمي غير المحدود. وقد صبغت الدولة الإيرانية العلماء بصبغتها، حولت الكثير منهم إلى أثرياء كبار، وأقامت فاصلا ثقيلا ومعتما بينهم وبين المجتمع، ودفعت آخرين إلى التورط في صفقات تجارية ومالية هائلة، أو التورط في مخالفات فادحة للقانون والشرع. الدولة الحديثة، مستودع الفساد الهائل في الحياة المعاصرة، أصابت بفسادها الكثير من حراس الشريعة وحماة قيم الدين. لقرون طوال من التاريخ الإسلامي كان العلماء دوما هم المتحدثين باسم الجماعة وقواها المختلفة ومصالحها. وقد جاء اندلاع الثورة الإسلامية في إيران تجسيدا لهذه التقاليد، عندما قاد العلماء مجتمعهم لإحداث التغيير السياسي الهائل في البلاد. اليوم، تفقد مؤسسة العلماء دورها التاريخي بعد أن استوعبتها مؤسسة الدولة والحكم، وتحرك آخرون، بأجندات ودوافع مختلفة، ليقوموا بهذا الدور.

ليس ثمة من حل جزئي للأمة الإيرانية، حل تفاوضي وسطي يجمع بين طرفي التدافع. الحل الحقيقي هو حل جذري وتحولي، يتلخص في خروج العلماء كليا من مؤسسة الدولة والحكم، من الأجهزة الأمنية ومواقع السلطة و القرار، بل وحتى من مجالس الشورى (البرلمان)، وعودتهم إلى مواقعهم التاريخية: صفوف الناس والمساجد ومعاهد العلم. هذا الفصل بين العلماء (لا الإسلام) ومؤسسة الدولة لابد أن يشمل الجميع، الإصلاحيين والمحافظين. بذلك ينزع عن الدولة (التي هي مؤسسة دنيوية أصلا) الهالة الثيولوجية الكاذبة التي أحاطت بها خلال العقدين الماضيين، ويصبح الإسلام رقيبا على الدولة لا أداة تسويف سلطوي لهيمنتها وبطشها

العدد 118 - الأربعاء 01 يناير 2003م الموافق 27 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً