العدد 1183 - الخميس 01 ديسمبر 2005م الموافق 29 شوال 1426هـ

أنا والمصابون بالأيدز وجهاً لوجه

أمل الجودر comments [at] alwasatnews.com

.

ما يربو على العشرين عاماً وأنا أشارك في المؤتمرات والدورات وورش العمل داخل البحرين وخارجها. .. ما يربو على العشرين عاماً وأنا أقدم المحاضرات والندوات وأتحدث في وسائل الإعلام المختلفة بما فيها القنوات الفضائية، فبحمد الله قد حباني من المؤهلات والمهارات والخبرات ما يؤهلني لذلك... ولم يحدث لي قط أن وددت الاستماع لأناس آخرين كما حدث لي عند مشاركتي في ورشة العمل بشأن دعم وتمكين الأشخاص المصابين بفيروس نقص المناعة البشري بدول إقليم البحر الأبيض المتوسط وشمال إفريقيا في الفترة من 13 إلى 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2005 في الجزائر. فما ان بدأ الاخوة والأخوات بسرد قصصهم الواقعية بشأن كيفية انتقال الفيروس إليهم حتى أدركت تماماً أنني أمام تجربة مختلفة عن كل ما عهدته وألفته من قبل، وتضاءلت كل المعلومات النظرية أمام كلماتهم ومشاعرهم، وكان الإنصات والتعاطف والبكاء خياري الوحيد، «فالراحمون يرحمهم الله»، بل كان بودي أن أسكت غيرهم من المتحدثين لأستمع أطول وقت ممكن لقصصهم. أناس من جسد وروح أمام ناظريك وتحت مسمعيك، أناس من طينتنا، من فصليتنا نحن البشر الذين كرمنا الله جميعا من دون استثناء ونفخ فينا من روحه وأمر الملائكة بالسجود لأبينا جميعا سيدنا آدم (ع) فهم اخوتنا من أب واحد وأم واحدة فلم نعاملهم بالتعالي والتمييز والرفض والإقصاء ونحرمهم من حقوقهم في الحياة والحب والعمل والعائلة؟ في حين أن خطرنا عليهم أعظم من خطرهم علينا بكثير، فهم ذوو المناعة الأضعف ولا يستطيعون نقل الفيروس لنا عن طريق العلاقات العادية والمقبولة اجتماعياً، إذ إن المرض لا ينتقل إلا عن طريق الجنس والإبر الملوثة والدم الملوث ومن الأم إلى الجنين، في حين اننا لو نقلنا لهم فيروس زكام على سبيل المثال نكون عرضناهم لخطر جسيم. إنهم لا يختلفون عن غيرهم من الناس في شيء، وأقسم بالله العظيم لو خرج أي واحد منهم ووقف بجانبك عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة لما استطعتم الحصول على فرق واحد ولو بذلتم الجهد الجهيد، بل لعل من المفارقات المضحكة لو خرج لكم الطبيب والشخص المصاب لما استطعتم تمييز أحدهما عن الآخر. وعلى أي حال، ما الذي يحدد صحة شخص ما من إصابته بمرض ما؟ أهي الفحوصات الإكلينيكية التي يقوم بها الطبيب؟ أم التحاليل المختبرية التي تجرى في المختبرات؟ صدقوني وأنا طبيبة أقول إن ما يحدد صحتنا وسقمنا هو إدراكنا وتفكيرنا وقناعاتنا عن ذلك، فإن كنت تعتقد بأنك شخص متمتع بالصحة فأنت كذلك، وان كانت كل التحاليل والفحوصات تقول العكس. وان كنت تعتقد بأنك شخص مصاب بمرض ما فأنت كذلك ولن تستطيع كل التحاليل السالبة في استرجاع صحتك، وهذا ما يحدث للأشخاص المصابين بالوساوس القهرية الذين إن لم يغيروا قناعاتهم فسيظلون مرضى مهما كرر الطبيب وأثبتت التحاليل العكس. فتأكد أن أول مكان يحدد مرضنا وصحتنا، بل ويحدد نجاحنا وفشلنا وسعادتنا وشقاءنا هو عقلنا وكل ما يفصلنا عن الصحة والنجاح والسعادة هو مجرد فكرة، فهل نعتنقها؟، إن قراءة الواحد منا موضوعا عن الأيدز في الكتب الطبية والمجلات العلمية والمواقع الدولية أمر يرفع من رصيده المعرفي طبعاً وبلاشك، لكن أن تجلس مع شخص مصاب بالفيروس تنصت له وتنظر إلى تعابير وجهه أمر مختلف تماماً. فهناك معلومات نظرية بحتة وإحصاءات وأرقام مجردة، وهنا يهتز كيانك وتستشعر بإنسانيتك وبتدفق مشاعرك في كل خلية من خلايا جسمك لتصل حتى نخاع عظمك، فما بالك بقضاء 4 أيام بلياليها في ورشة يشكل الأشخاص المصابون بالفيروس عمادها الرئيسي، إذ قد يصل عددهم إلى نحو نصف المشاركين، تصافحنا وتعانقنا وجلسنا مع بعضنا بعضاً وتجاذبنا أطراف الحديث واستمعنا إلى أحلامهم وآمالهم وشاركناهم في الجلوس على طاولات الطعام واحتفلنا بذكرى ميلاد إحدى الأخوات المصابات واستخدمنا الكراسي نفسها في القاعة والحافلات، واستخدمنا دورات المياه نفسها فكل ذلك لا يشكل أى خطر في نقل العدوى إلينا. قضينا أياما أقل ما يقال عنها إنها أكثر من رائعة وعجيبة وتجربة روحية فريدة بسبب مشاركة كل هذا العدد منهم الذين جاءوا من معظم دول إقليمنا يجمعهم أمل مشترك وتربطهم روح واحدة ويتطلعون لفجر جديد يتقبلهم المجتمع فيه ويجدون علاجا شافيا لهم فلا تملك إلا أن تستشعر بهذه الروح وتعيش ذلك الأمل. والحقيقة تقال، إنهم أناس مميزون وإيجابيون بشكل استثنائي عن بقية الأشخاص المصابين بأمراض أخرى مقبولة اجتماعيا بإلمامهم ومعرفتهم لكل صغيرة وكبيرة تتعلق بمرضهم. وقد لا أبالغ إذا قلت إنهم يعرفون أكثر من بعض العاملين الصحيين بمن فيهم بعض الأطباء. كما أنهم أقوياء، فبعضهم استطاع قهر المرض لأكثر من عقد من الزمن ولا أدري كيف ستكون رد فعل من يطلق الأحكام عليهم لو أصيب لا قدر الله بالفيروس. قد يقول قائل «إنهم يستحقون ما يحدث لهم فهم من جلب المرض». وأرد عليه وأقول: نحن أمام احتمالين... الأول قد يكون أحدهم أخطأ، ولكن من منا يعيش من دون خطيئة...؟ فيكفينا من الخطايا ذنبنا اليومي المستمر ألا وهو ذنب الغيبة، أي ذكر أخيك بم يكره في غيابه والذي قال الله سبحانه وتعالى عنه «أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكر هتموه». (الحجرات: 12) ثم من نحن حتى نصدر الأحكام ونطلقها على أمزجتنا؟ إن هذا من اختصاص الله سبحانه وتعالى وحرام علينا إقحام أنفسنا في ذلك... ومن يدري لعل الله قدر لهم هذا المرض واختار لهم ذلك البلاء لا لشيء إلا ليغفر لهم الذنوب والخطايا. ألم يصل الرسول (ص) على المرأة المخزومية الزانية وقال عنها للصحابة المستغربين من صلاته عليها: «والله لقد تابت توبة لو وزعت عليكم جميعا لأكفتكم». فلنؤد الدور المطلوب منا وهو الحب والرحمة والتسامح والتواضع والتعاون، ندع ما لله له فهو جل شأنه وتعاظمت منزلته القادر المقتدر وما نحن إلا مجرد عبيد له وتحت طوع أمره. ولنسمع قوله عز شأنه بقلوبنا قبل آذاننا «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم» (الزمر: 53). أما الاحتمال الآخر وهو الأكثر شيوعا في منطقتنا وخصوصاً بين النساء والأطفال أن يجلب المرض للمرأة شخص كان من المفترض عليه حمايتها ورعايتها ألا وهو زوجها، وبدورها تنقله إلى أطفالها من دون علمها، وكذلك بعض الرجال بأن يكون الشخص ضحية نقل دم ملوث، فكيف يكون مثل هؤلاء مذنبين وهم ضحايا أصلاً؟ وبأي عرف يدانون؟ وبأي قانون يعاقبون على ذنب لم يقترفوه؟ ومع ذلك فهم صابرون وراضون بقضاء الله وقدره ومحتسبون المرض عنده فلم يعترضوا على حكمه ويرجون رحمته ويحمدونه على كل حال ­ فسبحان من لا يحمد على شر غيره ­ ويطلبون غفرانه لمن جاء لهم بالمرض فأي سمو هذا وأي عظمة. ثم نأتي نحن بعد كل ذلك وبكل غطرسة نصدر الأحكام ونطلقها جزافا فنحرم الطفل من حق التعليم والمرأة من حق الحب والرجل من حق العمل. تخيلوا معي امرأة تعيش مع زوجها بسلام، تنجب منه أطفالها ثم يموت الزوج، عندها فقط تعلم أن سبب الوفاة كان مرض الأيدز. فبينما هي في هول صدمة فقد الزوج بسبب هذا المرض لتكتشف إصابتها هي بالمرض نفسه. وليست هي فقط المصابة الوحيدة، بل المرض قد طال فلذات كبدها... أية مأساة هذه؟ ليته مرض اجتاز امتحان القبول عند أعرافنا الاجتماعية فتستطيع الإفصاح عنه وتطلب المساعدة ممن حولها، لكنه ليست كذلك فتكتم الخبر عن أقرب الناس لها وتعيش في وحدة وعزلة. على رغم مرور أكثر من عقدين على هذا الداء مازال فاشلا في امتحان أعرافنا... فمتى يا ترى يكتب له النجاح ليرى المصابون النور ويخرجون من عزلتهم؟ نحتاج لقائد منهم يعتقد أن المرض هو البداية وليس النهاية. يعتقد أن المرض هو أفضل ما حدث له ويشكل نقطة التحول لديه. فالقائد من يفرض نفسه على الآخرين ويبادر، فإن لم يستطع الوصول لما يريده يكون قد فتح الباب لغيره بمواصلة المشوار. وإلا فلن نستطيع التغلب على المشكلة إن لم نتغلب على الوصمة مع الذات. واني على يقين تام بأنه متى كسر هذا القائد حاجز الصمت سيجد من يدعمه ويتعاطف معه فالراحمون والمتسامحون والمتحابون في الله كثير وفي كل زمان ومكان حتى تقوم الساعة وكل ما أوده من صميم قلبي أن يحدث ذلك على يد قائد ممن شارك في ورشة العمل الأولى بشأن دعم وتمكين الأشخاص المصابين بالفيروس في الجزائر ليتحقق أملهم في الفجر الجديد الذي يتقبلهم الناس فيه من دون إصدار أحكام ومن دون شروط. أكرر شكري لكل أخ وأخت منهم لما قدموه لي شخصيا من نفحات إيمانية كبيرة وجرعات روحانية عظيمة

إقرأ أيضا لـ "أمل الجودر"

العدد 1183 - الخميس 01 ديسمبر 2005م الموافق 29 شوال 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً