العدد 1184 - الجمعة 02 ديسمبر 2005م الموافق 01 ذي القعدة 1426هـ

كيف نعالج مشكلة التدخل في أعمال السلطة القضائية؟

حتى لا تضيع من أقدامنا الطريق

عزت عبدالنبي comments [at] alwasatnews.com

سأل الجنرال ديغول معاونيه بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية عن أحوال السلطات والمرافق العامة في فرنسا، وكانت إجابات معاونيه أن الخراب حل بكل المؤسسات والمرافق، بعدها سأل ديغول عن حال القضاء، فأخبروه أن القضاء بخير، فعلق قائلاً: إذاً، فرنسا بخير. فرنسا بعد ويلات الحرب العالمية الثانية بخير لأن قيمة العدل فيها بخير على رغم انهيار جميع المؤسسات والمرافق، لماذا؟ لأن القضاء هو المسئول عن إقامة العدل الذي لن يتحقق إلا باستقلال القضاة وبعدم خضوعهم لأية أوامر تصدر إليهم أو تأثرهم بعلاقات الصداقة أو الحظوة أو الحيثية أو مراعاتهم مصالح أفراد مرموقين على حساب المواطنين العاديين. بمعنى: أن النظام الاجتماعي في فرنسا بخير، وإن كانت الأوضاع الاقتصادية قد حل بها الخراب بعد انتهاء الحرب.

العدل أساس الحكم

وفي مملكة البحرين أشار ميثاق العمل الوطني إلى أن العدل أساس الحكم، وسيادة القانون دعامة أساسية للمجتمع تكفلها الدولة، ويعتمد نظام الحكم ­ تكريساً للمبدأ الديمقراطي المستقر ­ على الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وعلى كفالة حصانة القضاء واستقلاله لضمان حماية الحقوق والحريات. ونص الدستور في المادة (104) على أن شرف القضاء، ونزاهة القضاة وعدلهم، أساس الحكم وضمان للحقوق والحريات، ولا سلطان لأية جهة على القاضي في قضائه، ولا يجوز بحال التدخل في سير العدالة، ويكفل القانون استقلال القضاء، ويبين ضمانات القضاة والأحكام الخاصة بهم، وينشأ بقانون مجلس أعلى للقضاء يشرف على حسن سير العمل في المحاكم وفي الأجهزة المعاونة لها، ويبين القانون صلاحياته في الشئون الوظيفية لرجال القضاء والنيابة العامة. وفي ضوء هذه المبادئ العظيمة التي أشار إليها ميثاق العمل الوطني وتضمنها الدستور، من حقنا أن نتساءل: هل نطبق الدستور وننفذ ما جاء فيه بشأن السلطة القضائية؟ وللإجابة عن هذا التساؤل نجد أمامنا أسلوبين: أولهما، أن نضع رؤوسنا في الرمال كما تعودنا عند مواجهة المشكلات في المجتمع العربي، ونقول: إن قضاءنا نزيه ويحكم بصحيح أحكام القانون، والعدالة محققة أمام جميع المحاكم وفي مختلف أنواع القضايا. أما الأسلوب الثاني فهو الأسلوب العلمي الذي يفرض تشخيص المشكلة التي نواجهها ثم تحديد أسبابها واقتراح الحلول الممكنة لها.

المشكلة وسببها الرئيسي

وليس هناك من شك في أننا نواجه مشكلة كبيرة في السلطة القضائية، تتمثل في عدم الفصل بين السلطتين التنفيذية والقضائية، وأن السبب الرئيسي لهذه المشكلة هو وجود منصب وزير العدل الذي يمثل السلطة التنفيذية، وفي الوقت نفسه يترأس جميع المجالس واللجان التي تضم في عضويتها نائب رئيس المجلس الأعلى للقضاء والنائب العام، ومن ثم فهو يمارس ضغطاً وإن كان معنوياً على القضاة حين يريد ذلك، ويصعب على القاضي حماية نفسه من هذا الضغط لأنه في النهاية إنسان لا يسلم من الخطأ أو التأثر بما يراه ويحسه، وهو أن رئيس محكمة التمييز وهي أعلى مراتب القضاء ورئيس جهاز النيابة العامة أصبحا مرؤوسين لوزير العدل في المجالس واللجان المختلفة، ولدينا سؤال بسيط نطرحه على القارئ هو: لو افترضنا جدلا أن وزير العدل أصدر توجيها بأن يتم الفصل في احدى القضايا على نحو معين، أو أنه أصدر توجيها بشأن اتهام موجه لفرد معين أمام النيابة العامة، فماذا يكون موقف المحكمة أو القاضي أو النيابة؟ ونترك الإجابة عن هذا السؤال للقارئ. ومهما حاول المؤيدون لهذا الوضع تقديم الأسباب لتبرير وجود منصب وزير العدل بقولهم: إنه يشرف فقط على الشئون الإدارية والمالية للسلطة القضائية، فإن هذا القول مردود بأن سلطة المجلس الأعلى للقضاء واضحة في الدستور الذي نص على أن هذا المجلس يشرف على حسن سير العمل في المحاكم وفي الأجهزة المعاونة لها، والإشراف مفهوم متكامل يشمل الإشراف المالي والإداري وغيرهما، وهو يمتد ليس إلى الإشراف على المحاكم وحدها وإنما يشمل الأجهزة المعاونة لها، فأين هو النص الذي يجزئ الإشراف فيعطي المالي والإداري منه لوزير العدل وغيره للمجلس الأعلى للقضاء؟ لقد جاء النص على الإشراف عاماً في الدستور، ومن ثم فلا يجوز تجزئته للتدخل في أعمال السلطة القضائية، ويذكرني هذا الخلاف بتفسير الحكومة المصرية لإشراف القضاة على الانتخابات التشريعية، إذ حاولت هذه الحكومة قصر إشراف القضاة على اللجان الانتخابية الرئيسية وحدها وترك باقي اللجان الفرعية تحت إشراف موظفي السلطة التنفيذية، ليسهل لها تزوير الانتخابات في اللجان الفرعية، وجاء حكم المحكمة الدستورية العليا المصرية حاسماً في تحديد مفهوم الإشراف بأنه الإشراف المتكامل الذي يشمل جميع اللجان الرئيسية والفرعية، فأذعنت الحكومة المصرية لهذا التفسير وأصبحت الانتخابات التشريعية تتم على أكثر من مرحلة مراعاة لعدد القضاة. وتأكيدا لحقيقة أن إشراف المجلس الأعلى للقضاء هو إشراف عام نقول: إنه يستحيل الفصل بين ترتيب المحاكم وتنظيمها وولايتها وبين الجوانب الإدارية والمالية اللازمة لهذا الترتيب بما يتطلبه ذلك من ضرورة وجود موازنة خاصة للمجلس الأعلى للقضاء يمارس من خلال اعتماداتها صلاحياته في إنشاء قضاء إداري مستقل، أو إقامة دوائر جديدة للفصل في المنازعات الاقتصادية، أو لتخفيف العبء عن دوائر محاكم الاستئناف أو المحاكم الكبرى المدنية أو محاكم القضاء الشرعي، إلى غير ذلك من الأمور المتعلقة بهذه المحاكم، وفي غيبة هذه الموازنة المستقلة سيتدخل وزير العدل ليتحكم ويفرض بنفوذه المالي ما يجب أن تكون عليه أوضاع المحاكم في إطار ما هو مدرج من اعتمادات بموازنة وزارة العدل. ومن ناحية ثانية: كيف يقترح المجلس الأعلى للقضاء تعيين قضاة جدد أو ترقية البعض الآخر أداء لصلاحياته المنصوص عليها في قانون السلطة القضائية إذا لم تكن لديه موازنة مستقلة تحكم هذا التعيين وتحدد مجالات تلك الترقية؟ ولاشك أنه في ظل عدم وجود الموازنة المستقلة لهذا المجلس سيتدخل وزير العدل في هذه الأمور، لأن بحوزته الاعتمادات المالية التي يتحدد من خلالها عدد من يعين وحدود من يرقى. ومن ناحية ثالثة: كيف يكون أداء أعضاء النيابة العامة اليمين قبل مباشرة وظائفهم أمام وزير العدل ثم نقول: إن إشرافه عليهم هو إشراف مالي وإداري فقط، ذلك أن الأصل أن اليمين تؤدى أمام من أدين له بالولاء الوظيفي، وهذا الولاء يخرج عن إطار الشئون الإدارية والمالية ويدخل في صلب عمل أعضاء النيابة العامة. إن وجود منصب لوزير العدل يماثل تماماً وجود منصب لوزير شئون مجلسي النواب والشورى إذا أعطيناه سلطة الإشراف المالي والإداري على أعمال المجلسين، ثم نقول: إن هذا الوضع لا يمس استقلال السلطة التشريعية. وإذا كان التعاون بين السلطات الثلاث مطلوباً بحسب ما جاء في المذكرة التفسيرية للدستور، فإن فإن هذا التعاون لا يلغي مبدأ الفصل بين السلطات، ولا يسمح بتدخل أو سيطرة سلطة على سلطة أخرى تحت مسمى الإشراف المالي والإداري، ولا يفتح ثغرة للتدخل في سير العدالة من خلال وجود منصب لوزير العدل. إن الفساد المالي والإداري يمكن أن يحدث في أي وزارة أو هيئة أو مؤسسة حكومية أو خاصة، أما القضاء فيجب أن يكون في مأمن عن أي تدخل، ويجب حماية القضاة من أية ضغوط حتى لو كانت معنوية، ولن يتأتي ذلك إلاّ بالاستقلال الحقيقي للسلطة القضائية. هذه هي المشكلة التي تواجهها السلطة القضائية والتي تتمثل في وجود اختصاصات لا خلاف عليها للمجلس الأعلى للقضاء، ولكنها في حقيقة الأمر ملحقة وتابعة لسلطة أخرى يملكها وزير العدل، واعتمادات مالية مقررة لوزارته وحدها، ومن ثم فإن الكلمة الأخيرة ستكون للسلطة التنفيذية. ويرجع السبب الرئيسي لهذا المشكلة إلى وجود منصب وزير العدل، وسيكون متعذراً مع استمرار هذا الوضع ضمان نزاهة القضاة وعدلهم أو الحيلولة دون التدخل في سير العدالة.

حلول المشكلة

لقد عاش القضاء ثلاثة عقود وهو يعمل تحت سيطرة السلطة التنفيذية، ثلاثة عقود تعود فيها بعض القضاة على تنفيذ الأوامر أو التوجيهات التي تصدر إليهم من السلطة التنفيذية ممثلة في وزير العدل، وأصبح هذا الأسلوب في نظر القضاة أمراً عادياً لا غبار عليه، ولن نتمكن من ضمان الاستقلال الكامل للسلطة القضائية إلا إذا تحقق ما يأتي: 1­ أن يتفضل جلالة الملك المفدى باعتباره رئيس جميع السلطات ورئيس المجلس الأعلى للقضاء بلقاء القضاة وطمأنتهم بأنهم يتمتعون باستقلالهم الكامل، وأنه لا سلطان عليهم من السلطة التنفيذية في قضائهم، ويجب عليهم رفض أي تدخل في سير العدالة، عندئذ سيشعر القضاة بأن جلالة الملك يحميهم من الضغوط التي قد يتعرضون لها، وستتوافر لديهم الشجاعة والقدرة على رفض أي تدخل. 2­ إلغاء منصب وزير العدل وإعطاء المجلس الأعلى للقضاء سلطة الإشراف بجميع صورة على أعمال القضاء والنيابة العامة والأجهزة المعاونة لهما، وبذلك نمنع أية نبتة شيطانية تطل برأسها مرة أخرى لممارسة التدخل في أعمال السلطة القضائية. 3­ قيام المجلس الأعلى للقضاء بتوضيح المبدأ القانوني الذي يقضي بأن لمحكمة الموضوع السلطة التامة في فهم الواقع في الدعوى وتقدير قيمة الأدلة والمستندات التي تقدم فيها، ذلك أنه في إطار هذه السلطة بدأت بعض المحاكم بالتمهيد لبعض أحكامها بإيراد هذا المبدأ لتغطية تدخل السلطة التنفيذية في أعمالها، ولن يحتاج هذا التوضيح إلى وضع أحكام أو قواعد قانونية جديدة، ذلك أن محكمة التمييز وقضاء النقض المقارن وضعا قيوداً على ممارسة هذه السلطة، تتمثل في أن يكون استخلاص محكمة الموضوع سائغاً يقبله المنطق، وأن يكون له دليل ينتجه من الأوراق، وألاّ تقع المحكمة في أحد عيوب التسبيب، وأن تتقيد بالطلبات المرفوعة بها الدعوى ومحلها وسببها، وألا يعتمد الحكم على استخلاص واقعة من مصدر موجود، ولكنه مناقض لما استخلصه، وألا يعتمد الحكم على وقائع ليس لها مصدر محدد، وأن تواجه المحكمة صراحة في أ

إقرأ أيضا لـ "عزت عبدالنبي"

العدد 1184 - الجمعة 02 ديسمبر 2005م الموافق 01 ذي القعدة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً