العدد 1204 - الخميس 22 ديسمبر 2005م الموافق 21 ذي القعدة 1426هـ

لبنان لا يستمر إلاّ بالتوافق و«لا غالب ولا مغلوب»

فضل الله محذراً من اختراقه:

السيد محمد حسين فضل الله comments [at] alwasatnews.com

أبدى السيّدمحمد حسين فضل الله، خشيته من لعبة خبيثة تطل برأسها لإيجاد شرخ جديد بين اللبنانيين، داعياً إلى مواجهة العبث الدولي الذي قد يؤدي إلى اختراق الكيان اللبناني. وأكد استشعاره الخطورة الكبرى من المحاولات الأميركية المستمرة لاختراق لبنان والسعي إلى حفز فريق من اللبنانيين على رهن لبنان لمواقع دولية، مشيراً إلى أن لبنان لا يمكن أن يستمر كنموذج حضاري قابل للحياة إلاّ وفق صيغة التوافق الداخلي ومبدأ «لا غالب ولا مغلوب».

جاء ذلك في رده على سؤال في ندوته الأسبوعية بشأن نظرة الإسلام إلى الجانب الأخلاقي في العملية السياسية؛ وفيما يأتي الجواب:

حرص الإسلام على وضع منظومة أخلاقية متكاملة للحياة الإنسانية، وأراد للحياة البشرية أن تتحرّك وفقها، لأن الحياة التي لا تحكمها الضوابط الأخلاقية هي أقرب إلى شريعة الغاب. وأراد الإسلام لهذه الأخلاقية أن تحكم الحياة الاقتصادية، فلا ينطلق الإنسان على أساس الجشع والاحتكار؛ وأن تحكم الحياة الاجتماعية فلا يتحرك الإنسان على أساس الحقد والضغينة والحسد وما إلى ذلك. وهكذا بالنسبة إلى الجانب العسكري، إذ وضع الإسلام ضوابط أخلاقية أساسية لابد لمن يتحرك في المعارك والحروب والنزاعات من أن يراعيها ويعمل بها كقوانين ثابتة لا تقبل التغيير ولا التجاوز بأي شكل من الأشكال، كحرمة الغدر والخيانة والتمثيل بأجساد القتلى واحترام حقوق الأسرى لجهة حماية أرواحهم وعدم إهانتهم أو تعذيبهم والإساءة الجسدية والمعنوية لهم بأية طريقة من الطرق.

الأخلاق في السياسة

وأما الجانب السياسي بما يمثل من موقع حسّاس يطل على قيادة الأمة وتحديد خياراتها المصيرية، فقد أولاه الإسلام شديد الاهتمام وأراد للأخلاقية أن تحكم حركة العمل السياسي برمّتها، وكذلك حركة العاملين في هذا الحقل لينطلقوا على أساس الصدق والأمانة والشفافية والتواضع مع الناس، والاعتراف بأخطائهم أمام الأمة والاستعداد لدفع فواتير المسئولية عنها، وعدم التعالي على الناس ورفض التكبر، وغير ذلك من القيم التي أرادها الإسلام أن تتحرك في مفاصل العمل السياسي لتحصّنه وتحول دون تحوّله إلى حال خشبية تأخذ بالتسلط والعنف سبيلاً وبالعدوان طريقاً.

إن أهمية إدخال الأخلاق إلى العملية السياسية أنها تريد أن تؤنسن العملية السياسية لتمنحها الروح الحيوية ليتحسس المسئول آلام الناس ويعيش همومهم. وقد يتهمنا البعض بالمثالية في هذه الطروحات والابتعاد عن الواقع على أساس أن «السياسة فن الممكن»، وأن «الكذب ملح الرجال»، ولكننا نعتقد أن السياسة التي تبتعد عن القيمة الأخلاقية هي خداعٌ وغش... والواقعية لا تعني أن تسلّم للواقع الفاسد، بل أن تعمل على تغييره بأدوات الواقع التي بين يديك، وتبقى المثل الأخلاقية والقيم الإنسانية مثالاً أعلى على أهل السياسة أن يستهدوه للاستنارة منه، ما يشكل ضمانة لاستقامة الحياة وابتعادها عن السقوط في وحول السياسة وأنانيات أربابها وانحرافاتها. ولنا في هذا المجال أسوة حسنة بالرسول الأكرم (ص) الذي خاطبه الله تعالى: «واستقم كما أمرت ومن تاب معك» (الشورى: 15)، على طريقة: «إياكِ أعني واسمعي يا جارة». وأكد رفض كل خطوط المداهنة والمراوغة والأساليب الملتوية في التعاطي مع الناس والمجتمعات. وهكذا كانت سيرة الإمام علي (ع) الذي كلّفته استقامته وصدقيته أن ينأى عن الكثير من الناس وينفضّوا من حوله طمعاً بالمصالح والأهواء، حتى قال كلمته الشهيرة: «ما ترك لي الحق من صديق».

التقوى السياسية

وشعوراً منه بخطورة الموقع السياسي وما يستتبعه من مواقف قد تمسّ أمن الأمة ومصيرها فقد وضع الإسلام مجموعة من الضوابط ذات البعد الأخلاقي التي تحمي الأمة من طغيان السياسة والسياسيين، وعلى رأسها اتّصاف الحاكم بصفتي العدالة والتقوى، لأن من لم يكن عادلاً في نفسه ومحاسباً لها فلن يؤمل منه إقامة العدل في المجتمع. ولذلك نعتبر أن التقوى السياسية هي في أعلى مراتب التقوى، وما أحوج الأمة والعالم برمّته هذه الأيام إلى هذه التقوى أمام هذا التوحّش وهذه العدوانية التي تجتاح العالم في إنسانه واقتصاده وأمنه وبيئته.

إن الخطورة تكمن في أن هذا العالم تتحكم بمصيره فئة من الحكام والإدارات التي لا تحمل تقوىً سياسية في حركتها الميدانية أو في تطلعاتها السياسية، ويتجلى ذلك أكثر ما يتجلى في الإدارة الأميركية التي استطاعت أن تجعل من العالم مرتعاً للإرهاب وأن تحوّل منطقة الشرق الأوسط إلى منطقة توتر واضطراب لتجعلها على شفير زلزالي أمني وسياسي، بعدما أسقطت كل معايير العدالة وأطاحت بقواعد القانون الدولي واستباحت الكثير من الساحات الأوروبية التي أقامت فيها معتقلاتها السرية وسيّرت فيها مئات الرحلات الجوية السرية لمصلحة وكالة الاستخبارات المركزية، واستبدلت اسم أميركا كدولة مؤسسات كانت معنية بحقوق الإنسان والشعوب المقهورة في مطلع القرن الماضي، باسم أميركا الجشع والتوسع والقتل والتعذيب على حساب الشعوب المستضعفة في العالم.

إن أميركا هذه تحاول أن تقول من خلال ما تحدثت به وزيرة الخارجية الأميركية إن ما تهدف إليه هو «محاربة أيديولوجية الكراهية» في المنطقة، وإنه لم يكن من الحكمة أن تسكت أميركا الإدارة أمام أنظمة مستبدة وإن المنطقة كانت ستتحول إلى «بؤرة للإرهاب» لولا التدخل الأميركي. والحال أن أميركا هي التي غذّت أيديولوجية الكراهية ولاتزال عبر رعايتها لظلم «إسرائيل» ومن خلال عدوانها المباشر على الشعوب العربية والإسلامية، كما أن أميركا نفسها هي التي صنعت أنظمة الاستبداد أو عملت على توفير الحماية لها، وهي التي جعلت المنطقة بؤرة تضج بالإرهاب وتزدهر فيها جماعات التكفير والمجموعات التي ترفض الآخر والحوار معه، وهي المجموعات نفسها التي حظيت بدعم أميركي غير مسبوق بحجة مواجهة الاتحاد السوفياتي السابق.

ارتهان لبنان دولياً

إننا نستشعر الخطورة الكبرى في المحاولات الأميركية المستمرة لاختراق الجسم اللبناني الداخلي باسم الحرص على نشر الديمقراطية فيه، والسعي إلى حفز فريق من اللبنانيين على الذهاب بعيداً في متاهات رهن لبنان لمواقع دولية، سواء أكان هذا الفريق على دراية تامة بما يتحرك به أم لم يكن.

إننا نخشى من لعبة خبيثة بدأت تطل برأسها لإيجاد شرخ بين اللبنانيين عبر تخويف فريق لبناني من فريق لبناني آخر، في الوقت الذي تُقدَّم «إسرائيل» كحمامة سلام أو يصار إلى التخفيف من مخاطر عدوانها وأطماعها، كما نخشى من بروز حالات داخلية بدأت تتقبل ما يطرحه الأميركيون وغيرهم من أطروحات من شأنها أن تسلم بالعبث الدولي بمواقع أساسية داخل الكيان اللبناني أو أن تجعله عرضةً للاختراق الأمني والسياسي في كل وقت.

إننا نقول للجميع: إن لبنان لا يمكن أن يستمر كنموذج حضاري قابل للحياة إلاّ وفق صيغة التوافق الداخلي، ووفق مبدأ اللاغالب واللامغلوب، وكل محاولة للاستئثار بالبلد من جهة أو فريق، من شأنها أن تعيد البلد إلى الوراء، وأن تدفع بحالات التوتر السياسي نحو التوتر الأمني الذي لا يريده الجميع، ويرفضه اللبنانيون كما يرفضون تخييرهم بين التبعية للأجنبي أو اللاأمن واللااستقرار، وهم القادرون على صناعة استقرارهم الداخلي وحماية وحدتهم الداخلية بالحوار

إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"

العدد 1204 - الخميس 22 ديسمبر 2005م الموافق 21 ذي القعدة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً