العدد 1253 - الخميس 09 فبراير 2006م الموافق 10 محرم 1427هـ

هل تحرير التجارة بدعة لإنقاذ النظام الرأسمالي؟

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

في العام 1917 انفجرت الثورة البلشفية وأطاحت بالقيصر، وفي غضون 20 عاما، تحوّلت روسيا من دولة متخلفة إلى دولة متقدّمة وأصبحت في مصاف الدول الصناعية. هذا التحوّل السريع دفع بعض المفكرين العرب لحد الزعم بأن التنمية من نصيب الدول الاشتراكية وليست الدول الرأسمالية التي كانت تنمو نموّا طبيعيا. ويرى هذا البعض، أن التجربة التي قادتها الثورة البلشفية في روسيا القيصرية «تجربة مغايرة تماماً لتجارب الدول التي سبقتها». فقد تبنت الدولة التنمية الاقتصادية بأبعادها المختلفة، لتنتقل من معدل نمو تلقائي متدرج، إلى نمو ذي معدل رهيب، كمن انتقل فجأةً من السير على جمل، في طريق وعر المسالك، إلى شارع مسـفلت، مستخدماً سيارة من الطراز الحديث، لتختصر المسافات بصورة هائلة.

من الطبيعي ان تثير تجربة اليابان الشكوك عن مثل هذه الدعوى، فقد خرجت من جحيـم الحرب العالمية الثانية منهكة القوى، لا تقوى على الوقوف، وهي تجربة رأسمالية وإن اختلفت في سياقها عن التجربة الأوروبية، وحقّقت هذه التجربة ما لم يدر بخلد أحد أبداً. إننا نعتقد أن القضية برمّتها، قضية الإنسان وإرادته وسعيه نحو تحقيق الهدف، فالصين الشيوعية متقدمة صناعيا وأميركا الرأسمالية متقدمة، بينما الرأسمالية والشيوعية على طرفي نقيض.

المشكلة لدى الكثير من كتّاب ومثقفي الدول العربية، هي السطحية المفرطة، فبالأمس كانت الشيوعية هي النموذج الذي يجب فرضه ولو بالقوة على الشعوب، وإن سألتهم عن الدليل، فأيديهم جاهزة للإشارة بالبنان إلى التقدّم التكنولوجي والصناعي الذي حصل بعد الثورة الشيوعية في روسيا. ولكن ما أن أفل نجم الشيوعية بعد السقوط المدّوي للاتحاد السوفياتي السابق، وبسبب خفة وزن ما يمتلكه هؤلاء من عمق فكري، انقلبوا على فكرهم السابق إلى فكر آخر متمثلا حاليا، في الديمقراطية الرأسمالية، وكما كانوا سابقاً، فدليلهم على ما ينحون له ويدعون له من دعوة جديدة يتجسد في واقع الدول الغربية وما حازته من تقدّم مادي أبهر شباب الدول المتخلفة.

وعلى النمط نفسه من التفكير ترتفع في بلدنا هذا وفي كل يوم أصوات تطالب بخصخصة القطاع العام، وتدعو إلى تبني النظام الرأسمالي القائم على حرية السوق، معتبرين انه وسيلة التقدم التي أثبتت جدواها كما هو ماثل للعيان في الغرب.

الغريب أن كثيرا من هؤلاء كانوا في فترة ماضية من الماركسيين الذين بهرتهم الثورة الشيوعية في روسيا، فراحوا ينتظمون في صفوف الحركات اليسارية السرّية، ولكن لا بأس لديهم أن يتلوّنوا كما تتلوّن الحرباء وفقا للون البيئة التي تعيش فيها، فهم مازالوا يتقلبون يوميا بين الشرق والغرب.

الحقيقة، أن قليلا من شباب البلدان النامية لجأ أو دعا لتبني النظام الرأسمالي القائم على حرية السوق، وذلك نتيجة ما تعتقده الأكثرية الساحقة من دور قذر لعبته البلدان الرأسمالية الاستعمارية تجاه هذه الدول. غير أنه لا يمكن نفي الآثار السيئة للحكم الاستبدادي على المستوى السياسي من كبت لحرية التعبير وإقصاء عن المشاركة في القرار، بجانب الحال الاقتصادية المتردية، ودور كل منهما (الحال السياسية والاقتصادية) في دغدغة مشاعر البعض ممن يدعو إلى تبني النموذج الغربي، مع أنه لا علاقة قسرية بين الديمقراطية ونظام اقتصاد السوق الحر (النظام الرأسمالي) كما يتوهم بعض كتّاب الأعمدة لدينا، والذين يروّجون للنموذج الغربي، فلقد قدم الجنرال «اوغسطو بينوشيه» واستولى على سدّة الحكم في «تشيلي» بمساعدة المخابرات المركزية الأميركية، وقام بفرض نظام اقتصاد السوق الحر بالقوة والنار، فصفّق له أمثال هؤلاء وهم كثر في بلاده. إن ما لعبته المخابرات الأميركية من أدوار سابقة في دعم الأنظمة الشمولية في استبدادها السياسي، وفي الوقت نفسه فرض نظام السوق الحر من دون اكتراث لرأي الشعوب، يثير المخاوف الحالية من فصل الإصلاح السياسي عن الإصلاح الاقتصادي مستقبلا.

السؤال المهم

لا أعتقد أن أحدا سيعبأ بأسباب سقوط الشيوعية بعد ان أشبعت تحليلا، فكل واحد في جعبته الكثير، غير أن السؤال المهم في هذا الصدد الذي ينتظر البعض وخصوصاً كتّاب الأعمدة من دعاة اعتماد اقتصاد السوق الحر بل وحتى تحرير التجارة الدولية هو الآتي: ما هي الأسباب الحقيقية وراء بقاء النظام الديمقراطي الرأسمالي؟ وهل وراء دعوى عولمة التجارة التي تدعو لها الدول الغربية الرأسمالية أزمة تهدد النظام الرأسمالي وتقوّض التفوق الغربي؟

ليس من اليسير الإجابة على مثل هذا السؤال المثير في مقال محدود، إلا إننا نود ان نثير بعض النقاط الهامة لعلّها تثير الانتباه وتفتح المجال لاكتشاف الأسباب الحقيقة وراء بقاء هذا النظام من خلال بقاء دوله الرئيسية الغربية في تقدّم مستمر.

الاستعمار

أولى الحقائق التي تكمن وراء استمرار التفوّق الاقتصادي للدول الرأسمالية الغربية، ومن ثم استمرار بقاء النظام الرأسمالي، وهي من الحقائق المهمة جدّا والتي مازال يغفل عنها دعاة تبني النظام الاقتصادي الرأسمالي، إن الإنتاج الرأسمالي نشأ من تراكم رأسمال الطبقة التجارية، ليس لتبنيها النظام الرأسمالي، وإنما يعود ذلك لتوسّعها الاستعماري. فعندما تم اختراع الآلة، وفاض الإنتاج عن حاجة السوق المحلي في دول أوروبا بالذات، سيطر أصحاب رؤوس الأموال على الحياة الاقتصادية تماما في تلك الدول، وتم إخراج صغار الحرفيين والملاّك من الأسواق.

طبيعي كان لمرحلة الإقطاع السابقة على مرحلة الرأسمالية، دورها البارز في تكريس تفوّق فئة معيّنة وتكريس تداولها للثروة، ففي تلك المرحلة، استحوذت هذه الفئة القليلة على مصادر الإنتاج الرئيسية من ثروات الطبيعة، كالأراضي الخصبة والمناجم، بل حتى الأنهار والغابات. لذلك «عانى صغار المزارعين فيما بعد وفي مرحلة الرأسمالية من الإيجارات المرتفعة التي يفرضها عليهم ملاّك الأرض في بعض المناطق في العصر الحديث كالمرتفعات الاستلندية، فكان ما يبقى لهؤلاء المزارعين بالكاد يكفيهم، ولذلك شدوا العزم ورحلوا منذ بداية 1775م، باتجاه أميركا الشماليـة ومعهم زوجاتهم الحوامل والأطفال، سيرا على الأقدام في سبيل الاستقرار في عالم جديد». أما هؤلاء الرأسماليون وملاّك وسائل الإنتاج، فقد انشغلوا بالبحث عن أسواق لفائض الإنتاج، والمصادفة بل الحقيقة المهمة الأخرى، أن ملاّك رؤوس الأموال الكبيرة هم أنفسهم أصحاب القرار السياسي والمتسنمين لمناصب الحكم، ولذلك واكب الإنتاج الرأسمالي بزوغ عصر الاستعمار الذي دمّر الصناعات الوطنية في البلدان المستعمرة (بفتح الميم)، وأحالها إلى أسواق لفائض الإنتاج الغربي، وجعل منها بلدانا غالباً ما تعتمد على سلعة أولية واحدة في اقتصاداتها، هذه السلعة تشكل معظم صادراتها.

ففي الوقت الذي تشكل المواد المصنّعة معظم صادرات الدول المتقدمة، إذ تصل ما نسبته 81 في المئة من صادرات البضائع من دول منظمة التعاون والإنماء الاقتصادي، فإن نسبة الصادرات من المواد الأولية تشكل النسبة الأعظم بالنسبة لأكثر الدول النامية، فتبلغ - مثلا - 91 في المئة بالنسبة للمملكة العربية السعودية، و87 في المئة للبحرين، و80 في المئة للكويت. وكان النفط وحتى وقت قريب يشكل 92 في المئة من صادرات العراق، ويشكل البن 84 في المئة من صادرات بعض الدول. المشكلة ان السلع الأولية - باستثناء النفط - وبسبب تلاعب الشركات المتعددة للجنسيات، تتناقص قيمتها في كل يوم، كسعر البن مثلا الذي انخفض مؤخرا بنسبة 30 في المئة، بينما المنتجات الصناعية التحويلية ترتفع أسعارها، وربما هذا أحد أسباب تراجع معدّل النمو الاقتصادي لبعض الدول النامية.

«ويرى بعض الباحثين، أنّ الدول النامية أدمجت في التجارة الدولية، وذلك بعد القضاء على صناعاتها الوطنية من قبل الاستعمار، وجعل من هذه الدول متخصصة في صناعة المواد الأولية، «وبالتالي تعميق تقسيم العمل الدولي بحيث تصبح هذه المناطق منتجة للمواد الأولية التي تحتاج إليها الدول المتطورة»

الشركات المتعددة الجنسية (العابرة للقارات)

لم يكن آدم سميث (1723- 1790م) الذي يعتبر أبا للنظام الرأسمالي الحالي محبّا لأصحاب رؤوس الأموال حين ظهرت شهرته بما طرحه من آراء اقتصادية في كتابه الشهير (ثروة الأمم) والذي طُبع العام 1776م. بل العكس صحيح كما يذكر بعض الباحثين، إذ كان آدم يكره التجّار الرأسماليين، وكان يعتقد أن نظام اقتصاد السوق الحر القائم على إبعاد تدخّل الدولة في الحياة الاقتصادية، كفيل بإشعال فتيل التنافس بينهم، ما يقود إلى خفض الأسعار ورفع مستوى الجودة لمصلحة عامة المواطنين.

في هذا السياق، قد يجدر لفت الانتباه لنقطة نعايشها جميعا كل يوم، فمع أن الشركات المتعددة الجنسيات في العالم لا تقل عن 449 شركة، منها 153 شركة أميركية، ولكن يصاب المرء بالعجب عندما يزور أياً من الأسواق الكبيرة في المملكة أو الدول المجاورة التي تبيع السلع الغذائية والاستهلاكية الأخرى، فالأرفف مليئة بالسلع الأميركية وبأسعار معقولة، ويصعب ان تجد بضائع من دول أخرى، وكأنما لا أحد في الدنيا ينتج هذه السلع المعلّبة غير الولايات المتحدة، ولا ندري ما إذا كان ذلك يعود لضغوط سياسية فرضت تسهيلات حكومية على السلع الأميركية دفعت التجّار لتفضيل هذه البضائع أم أمر آخر لا نعرفه.

مرحلة عولمة التجارة

بعد الحرب العالمية الثانية، تحقق للكثير من دول العالم الثالث الاستقلال السياسي النسبي، مع تخلف ملحوظ في المجال الاقتصادي. ومن أجل اللحاق بركب الدول الصناعية، قامت هذه الدول بفرض ضرائب عالية على الصناعات الأجنبية وذلك من أجل حماية الصناعة الوطنية التي مازالت تحبو أو ربما مازالت في مهدها. وبعد عقود من الزمن، بدأت بعض الدول النامية تنوّع مصادر دخولها بدل الاعتماد الكلي على سلعة واحدة، وقد تطورت الكثير من الدول في مجال الصناعة التحويلية كتحويل النسيج إلى ملابس أو صناعة الأغذية، وبدأ العد التنازلي لتقليل الاعتماد على الصناعة الاستخراجية كاستخراج البترول فقط، وبدا أن بعض

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1253 - الخميس 09 فبراير 2006م الموافق 10 محرم 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً