العدد 1256 - الأحد 12 فبراير 2006م الموافق 13 محرم 1427هـ

ماذا وراء حملة الإساءة للرسول (ص)؟

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

للرسول الأكرم محمد (ص) مكانة خاصة في الإسلام، ومكانته لم يصنعها هو كبشر، ولا صنعها المسلمون، بل حددها الله تعالى في محكم كتابه الكريم، فنهر عن رفع الصوت في حضرته فقال «لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي»(الحجرات: 2»، وتوّعد من يؤذيه بقوله «والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم»(التوبة: 61). ومع أن الرسول العظيم عفا عن أهل مكّة حين الفتح في السنة الثامنة بعد الهجرة، وقال لهم كلمته المعروفة: اذهبوا فأنتم الطلقاء، إلا أنه أهدر دم عدد ممن تميّزوا وأوغلوا في إيذائه وأمر بقتلهم «وإن وُجدوا تحت أستار الكعبة». وجاء أن مكّة قد استحلّت تلك الساعة فقط، ثم حرّمت إلى الأبد.

ويمكن تلمّس مكانة الرسول الأكرم (ص) في الإسلام من خلال الحكم الشرعي الذي قد يصل إلى حد القتل لمن يتعرض له بالسب والحط من مقامه بالاستهزاء. وربما نتذكر جيداً فتوى إهدار دم الكاتب البريطاني الهندي الأصل سلمان رشدي من قبل الإمام الراحل روح الله الخميني بسبب تعرضه المشين لذات الرسول الأكرم (ص).

من هذا المنطلق يمكن فهم ردّة الفعل الغاضبة من قبل المسلمين على ما قامت بنشره صحيفة «جيلاندز بوستن» الدنماركية من رسوم كاريكاتيرية مسيئة للنبي (ص)، ومستهينة بذلك بعقائد اكثر من مليار و400 مليون نسمة من سكان الكرة الأرضية.

وعادة ما يهدف النيل من مكانة الشخصيات وتسفيه الرموز لأي جماعة، وتقليل مكانتها وهيبتها، إلى ضرب فكر وعقيدة هذه الشخصيات، أو تشكيك الأتباع في عقيدتهم، والقرآن الكريم يذكر أن يهوداً - مثلاً - اتهموا السيدة مريم بالزنا من أجل تنفير الناس من هذا البيت ذي العقيدة الصافية المخالفة لأهوائهم.

واستهداف شخصية الرسول الأكرم (ص) قديم بشهادة القرآن، سواء من المشركين الذين اتهموه بالجنون والسحر، أو من بعض أهل الكتاب وبالذات اليهود منهم. واستمر هذا العداء إلى ما بعد ظهور عصر الاستعمار، فمنذ أن وطئت أقدام المستعمرين الأوروبيين أرض المشرق، مع ثنائيهم المتمثل في المبشرين، كانت شخصية النبي (ص) محلا للتشويه وترويج الأكاذيب ضدها بمختلف الوسائل والطرق، فقد ملأوا الكتب الدراسية في المدراس التي يتم افتتاحها في البلدان المستَعمرة بمثل هذه الصورة الشوهاء عن النبي (ص)، وربما تكون مثل هذه المواد من أسباب حذر الآباء وترددهم في ارسال ابنائهم الذكور فضلاً عن الإناث للمدارس في ذلك الزمان حيث سيطر المستعمرون عليها وعلى مناهجها، فمثلا «كان يدرّس بداية القرن الماضي في المدرسة البطريكية في بيروت كتاب اسمه يبدأ بـ (تاريخ محاضرات...) للصف الرابع، جاء فيه عن حياة الرسول (ص) أنه «أخذت تتراءى له رؤى أقنعته بأن الله اختاره رسولا... وأن اتباعه حملوا العالم كله على الإسلام بالسيف».

وفي أوروبا فإن ممارسة عملية تزييف وعي الجمهور الأوروبي هي الهدف الأساس من وراء حملاتهم الشعواء تجاه الإسلام وتجاه الرسول الأكرم (ص)، وهي عملية تتم بطريقة تتمظهر بالمنطق ومحاكمة الفكر. هذه الحملات التشويهية لم تنقطع يوماً قط وهي مستمرة منذ أمد بعيد، قادتها الأوائل هم رجال الدين، ويتركّز هدفها الأساس على التعمية الإعلامية وإظهار الإسلام بخلاف الحقيقة وذلك بتجسيده في صورة بعبع مخيف لدى الغربيين، ومعادٍ للحضارة والتطوّر، حتى لا ينفتحوا عليه ولا يتساءلون عنه أبدا. يقول المفكّر الإنجلينزي برناردشو (1817 - 1902): «إنّ رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجةً للجهل أو التعصّب، قد رسموا لدين محمدٍ صورةً قاتمةً، لقد كانوا يعتبرونه عدوا للمسيحية، لكنّني اطّلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبةً خارقةً».

غير أن هذه الحملات لم تصل لحد الإسفاف الذي امتطته الصحيفة الدنماركية من خلال رسومات ساخرة لا علاقة لها بحرية التعبير وحرية الفكر، ولكن يصعب الزعم بان الحملة الجديدة من قبل الصحيفة الدنماركية هي حملة منظّمة تم نسج خيوطها في ليل، وخصوصاً مع إدانة الكثير من الصحف الغربية لهذه الحملة، وكذلك ادانة بعضها الشخصيات السياسية الغربية، إلاّ ان تكون عملية جس نبض لا أكثر من أجل فتح جداول ومقالات الاستهتار بقيم المسلمين وعقائدهم.

وربما يكون ما قامت به الصحيفة عبارة عن صدى لتصريحات بغيضة من قبل الملكة اليزابيث الثانية ملكة الدنمارك، وذلك بتاريخ 15 أبريل / نيسان 2005 لمجلة «تليغراف» البريطانية: موقع صحيفة «تيلغراف» البريطانية. وقد دعت شعبها في تصريحها لهذه الصحيفة إلى إظهار المعارضة للإسلام، وقالت : «إن دين الإسلام عقبة في طريقنا هذه السنين، محلياً وعالمياً. لقد تركنا الموضوع يتفاقم لأننا متسامحون وكسولون. مهما قال عنا الناس، يجب علينا مقاومة دين الإسلام لأن هناك أشياء يجب عدم التسامح معها».

وتوجد غاية خبيثة أخرى من وراء الإساءة إلى النبي (ص)، وهي تمييع موقف المسلمين ودفعهم للتهاون شيئا فشيئا حيال البذاءة تجاه أكبر شخصية لديهم، فتكرار هذه الهجمات وضعف ردّة الفعل في كل مرة، وعدم اتخاذ مواقف جريئة ودائمة من قبل الدول الإسلامية، يبهت شيئاً فشيئاً حماسة المسلمين ويؤدي دور المهجّن لهم، ومن ثم قبولهم المستقبلي بمثل هذه التجاوزات، واعتبار ذلك كله يدخل في نطاق الحرية الفكرية دون خسائر مادية تذكر من مثل فرض مقاطعة طويلة الأمد ضد الدنمارك.

غير أنه لا يمكن التنازل عن مسألة الدفاع عن مكانة الرسول وصيانة ذاته المقدّسة تجاه مثل هذه الجرأة غير المسبوقة، وتعتبر المسيرات والمظاهرات وسيلة مهمة لإبقاء جذوة الحماس مستمرة لدى المسلمين، لذلك ينبغي عدم الاستخفاف بالتظاهرات واعتبار ذلك ردّة فعل عاطفية - كما في تعبير بعض الكتّاب - لا جدوى من وراءها، فشحذ الهمم أمر مطلوب، وهذه المسيرات تعكس عواطف إيمانية وليس عواطف بهيمية بلهاء.

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1256 - الأحد 12 فبراير 2006م الموافق 13 محرم 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً