العدد 1323 - الخميس 20 أبريل 2006م الموافق 21 ربيع الاول 1427هـ

التصريحات الرسمية الطائفية... استقواء بالداخل أم استرضاء للخارج؟

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

هل التصريحات التي تطعن في ولاء الشيعة لأوطانهم تمثل توّجهاً رسمياً عربياً جديداً هدفها الاستقواء بالداخل عن طريق استرضاء المؤسسات الدينية في وجه الضغوط الدولية التي تطالب بالإصلاح؟ أم أن هناك مؤامرة جديدة تستهدف إثارة النزاعات على أساس طائفي يتم على إثرها التدافع للارتماء في أحضان القوى الكبرى وعلى رأسها أميركا؟ وكيف نستوعب ما نعايشه يوميا من إثارات طائفية، وفي الوقت نفسه تعامي الأجهزة الرسمية في الكثير من بلدان المسلمين عن هذه الإثارات؟ أسئلة كبيرة وخطيرة لا نزعم قدرتنا على الإجابة عنها... إلا أن استنطاق التاريخ قد يجيب على جزء صغير منها، وخصوصاً فيما يتعلق بالمسلمين الشيعة الذين استهدفتهم التصريحات الرسمية.

إن التصريحات الطائفية عندما تخرج من جهات رسمية، لا تخرج عن نطاق إرث مأزوم طائفياً كما يحدثنا التاريخ، إذ يسعى بعض الحكام لتوظيفه لمصلحتهم الخاصة. وقد كان العراق المستهدف الأول بهذه التصريحات غير المسئولة، الذي كان ساحة التصارع بين الدولتين الصفوية والعثمانية منذ القرن السادس عشر، والذي دفع ثمنه العراقيون. ولما استتب الأمر للعثمانيين، سعوا لإيجاد حالة من الفرقة والتوجسات بين الطائفتين السنية والشيعية، وشاع في زمانهم إلصاق تهمة الشعوبية بالشيعة، مع أن الشعوبية «مصطلح شاع منذ العصر العباسي أطلق على الأقوام غير العربية الذين دخلوا الإسلام واصطدموا مع المسلمين العرب حول شئون الحكم». ولم يكن لهذه التهمة من هدف سوى الوقيعة من خلال التشكيك في عروبة الشيعة العراقيين مع أنهم ينتمون إلى بطون القبائل العربية في الجزيرة العربية، كقبيلة ربيعة وبني أسد وبني مالك والياسري والأنصاري والعامري والزبيد والخزاعل والزيدي وأقسام من الجبور والشمر.

وقد فرض العثمانيون سياسة تمييزية قاسية ضد الشيعة، الذين دفعهم الضيق إلى التمرد على الأنظمة التي تحاول فرضها عليهم السلطات العثمانية. ونتيجة لسياسة التمييز الطائفي، تمرد أهالي مدينة كربلاء عدة مرات ورفضوا الانصياع لها، وقد جرت بسبب ذلك أكثر من مجزرة بحق الأهالي، منها ما قامت به القوات العثمانية في سنة 1241 هـ، من هجوم دموي بقيادة الوالي داود باشا بعد أن حاصر المدينة أربع سنوات ثم احتلها وقتل عدداً كبيراً من أبنائها، وفي العام 1258 هـ تكرر المشهد نفسه عندما أراد الوالي نجيب باشا إخضاع المواطنين بالقوة والإكراه، فقام بقصف المدينة المقدسة بالمدفعية بكل شراسة، وارتكبت قواته فيها مجزرة مروعة ذهب ضحيتها أكثر من عشرين ألف شخص، وعرفت هذه المجزرة فيما بعد بـ «واقعة نجيب باشا».

ومن باب هذه الممارسات القاسية، حاولت بريطانيا وروسيا القيصرية التدخل نكاية بالعثمانيين، ففي حادثة سامراء العام 1311 هـ، والتي تعرض فيها المرجع السيد محمد حسن الشيرازي للأذى من قبل بعض الجهال، وكادت تحدث فتنة طائفية كبرى، حاولوا اقتناص الفرصة، فسافر قنصلا البلدين إلى سامراء وأعلنوا دعم بلديهما للمرجع الشيرازي، إلا أن المرجع الديني رفض استقبالهما وأبلغهما بواسطة البعض، أن هذا أمر حدث بين أبنائنا ونحن قادرون على تجاوزه.

إلا أن مواصلة العثمانيين تعسفهم وأعمالهم الطائفية، أغرت بريطانيا على استغلال سخط الشيعة على ممارسات السلطات العثمانية، ففي العام 1914 عندما غزت العراق كان الأمل يراودها بسرعة هزيمة الأتراك، إذ كانت تتوقع أن يرتمي الشيعة في أحضانها كمخلص ومنقذ لهم، غير أنها تفاجأت عندما تناسى زعماؤهم الجراحات الغائرة، وأصدر كبار مراجعهم فتاوى الجهاد في صفوف قوات الخلافة العثمانية ضد الإنجليز، باعتبارها سلطة إسلامية، وأصدر المرجع السيد محمد تقي الشيرازي فتوى في الأول من مارس/ آذار 1920 حرّم فيها العمل في الوظائف الحكومية تحت الإدارة البريطانية، فأدت إلى موجة استقالات بين الموظفين الشيعة.

وفي هذه الحوادث وغيرها درس بليغ لمن يريد أن يتعرف على حجم ولاء الشيعة لأوطانهم وحقيقة مودتهم لإخوانهم من الطوائف الأخرى ودفاعهم عن الإسلام وتساميهم على الجراحات.

وحتى حسابات البيت الأبيض كانت تصب في هذا المصب، عندما غزت القوات الأميركية العراق وأسقطت بغداد في أبريل 2003، فقد كانوا يتوقعون استقبال الشيعة لهم بالورود بعد أن مارس الطاغية صدام أبشع الأعمال الإجرامية التي حظيت بتغطية من الدول الكبرى. بل إن اضطهاد هذه الفئة من المواطنين الذي لا يشعر به الآخرون، وصل إلى حد أن قال بعضهم نتيجة ما نالهم من القتل والبطش: «ليأخذ الأميركان ما يريدون النفط وغيره، فقط يتركوا لنا الماء نشربه والهواء نتنفسه».

غير أن الأميركان تفاجأوا فيما بعد بشعار «لا أمريكا ولا صدام، نعم نعم للإسلام»، الذي رفعه العراقيون في وجوههم، والذي لم يخطر على بالهم أصلا. لذلك ينحى بعض المحللين إلى وجود تواطؤ للسماح بمزيد من الأعمال الإرهابية التي تطال في غالبيتها العظمى المناطق الشيعية على أيدي التكفيريين من أجل توفير مبرر للأميركان يمدد وجودهم في العراق.

إن إثارة النزعة الطائفية دائماً ما تكون محل رضا الأعداء المستعمرين، وهذا ما يسعى الحكام المستبدون لتحقيقه لأسيادهم من أجل استمرارهم. ونتيجة الإرث المتخلف يكرس هؤلاء الحكام تسلطهم عن طريق تحييد طائفة أو تحريضها ضد طائفة أخرى. وتاريخ المسلمين يزخر بالكثير من المنعطفات المخزية، ومن الأمثلة المريرة ما حدث العام 1880، عندما أرغمت بريطانيا آنذاك على الخروج من أفغانستان، فنصبت خلفها رجلاً قاسياً يدعى عبدالرحمن خان، وقد أجمع على مقاومته السنة والشيعة. ولكن الرجل أدرك طريق الخلاص باستصدار فتاوى تكفر الشيعة من بعض علماء الأفغان وتبيح دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وقيل إنها فتاوى تم جلبها من الحجاز، وبدأ عملية خطيرة يذكرها التاريخ تمثلت في قتل الآلاف واسترقاق الأسرى وسبي النساء حتى انتعشت سوق النخاسة من الأفغان الشيعة الذين قاوموا بعنف لولا اختلال التوازن. وبهذه الفتاوى الجائرة استطاع البقاء في الكرسي عن طريق هذه الجرائم التي تمت برضا وارتياح تام من أسياده الإنجليز.

ولقد استمر القتل والمجازر التي حدثت في نهاية القرن التاسع عشر إلى أن تدخل المرجع الديني الميرزا محمد حسن الشيرازي صاحب فتوى تحريم التنباك الشهيرة، حين أرسل رسالة شديدة اللهجة تأمر الشاه ناصر الدين شاه بالتدخل لدى الإنجليز وإلا أصدر قرارات حاسمة، فأوعز هؤلاء لعميلهم فأوقف المجازر.

مرة أخرى نسأل: هل الإثارات الطائفية من قبل بعض الرسميين العرب استجابة لإرادة القوى الكبرى من أجل إحداث انشغال داخلي للدفع نحو استقطاب طائفي تكون السلطة المستفيدة منه؟ أم أنها تصريحات من أجل الاحتماء بالداخل ضد الضغوط الدولية المطالبة بالإصلاح؟ أم الاثنين معاً؟

كاتب بحريني

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1323 - الخميس 20 أبريل 2006م الموافق 21 ربيع الاول 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً