العدد 1343 - الأربعاء 10 مايو 2006م الموافق 11 ربيع الثاني 1427هـ

علي التاجر في ذاكرة الوطن

منصور محمد سرحان comments [at] alwasatnews.com

يعد الاستاذ علي التاجر أحد رموز حركة التنوير في البحرين في العصر الحديث. وقد عرف بذكائه الحاد، وسرعة بديهته، وسعة اطلاعه، كما عرف ببلاغته وتضلعه في اللغتين العربية والإنجليزية، وكان أحد أشهر رواد النقد الأدبي في البحرين ومنطقة الخليج العربي.

ينحدر الأستاذ علي التاجر من أسرة عربية كريمة، عرفت بالعلم والأدب، وأنجبت الكثير من الشعراء والأدباء والفقهاء ورجال الفكر والاقتصاد. وكان لأبناء هذه الأسرة الفضل الكبير في تفعيل الحركة الثقافية والتعليمية في البلاد في النصف الأول من القرن العشرين. فقد ساهم الشيخ سلمان التاجر في رفد الساحة الثقافية المحلية بمجموعة قيمة من مؤلفاته، وبالكثير من القصائد التي نظمها في شتى الموضوعات، كما كان من ضمن المجموعة التي حاولت تأسيس أول مكتبة عامة في البلاد العام 1913. ويعد الشيخ محمد علي التاجر شخصية فريدة من نوعها، فكان أديباً وشاعراً ومؤرخاً وخطيباً مفوهاً، يرجع إليه الفضل في تأسيس أول مكتبة تجارية في البحرين العام 1920م، كما أنه من كبار المؤلفين المتضلعين في كتابة تاريخ البحرين قديماً وحديثاً. أما عبدالرسول التاجر فقد امتاز بتأسيسه مدرسة أهلية في العام 1945م خرجت المئات من الذين تعلموا الضرب على الآلة الكاتبة العربية والانجليزية في عقود الاربعينات والخمسينات والستينات من القرن العشرين، بالاضافة إلى تدريسه اللغة الانجليزية ومادة الرياضيات. وسط هذه الأسرة العربية الأصيلة التي عرفت بحبها للعلم، ولد علي التاجر في العام 1906م، وبزغ نجمه في كتابة المقالات الصحافية في عقود الثلاثينات والاربعينات والخمسينات، وأصبح الكاتب المفضل للنخب المثقفة آنذاك. وركز جل اهتمامه في كتابة المقالات النقدية، فكان له شأن في ذلك لا يضاهيه أحد في زمانه... بل يعد هو وإبراهيم العريض رائدي هذا الفن من الأدب في منطقة الخليج العربي. بدأ التاجر بنشر مقالاته الأدبية والفكرية بمجلة «الرسالة» المصرية في السنوات الأولى من ثلاثينات القرن الماضي. وتعد المراسلات التي تمت بينه وبين إبراهيم العريض في الفترة من العام 1938م إلى العام 1939م أثناء وجوده في الخارج متنقلاً بين أبوظبي ودبي، البدايات المبكرة للنقد الأدبي في البحرين.

وتمحورت تلك المراسلات حول ثلاث قصائد من نظم الشاعر إبراهيم العريض وهي: «التمثال الحي»، «قلب راقصة»، و«الشاعر المجهول»، وكان التاجر يكتب نقده بكل صراحة في كل قصيدة ينظمها العريض ويرسلها إليه. وتعد المراسلات التي جرت بينهما عن قصيدة «الشاعر المجهول» أصدق أنواع النقد وأكثر حيوية، بل إنه أساس بناء النقد الأدبي المبكر في البحرين، فقد تحولت المراسلات عن تلك القصيدة إلى كتابة بحوث ودراسات نقدية جادة تم تضمينها في الكتاب الذي أصدرته هذا العام بعنوان «النقد الأدبي في البحرين خلال القرن العشرين».

وعندما أصدر عبدالله الزايد «جريدة البحرين» في العام 1939م، فسحت المجال للنقد الأدبي، ونشرت في الفترة من العام 1941م إلى العام 1942م 35 مقالاً نقدياً عن السجال الذي دار بخصوص تجربة الشاعر عبدالرحمن المعاودة ونظم الرباعيات الشعرية على غرار رباعيات الخيام. وشارك التاجر بقلمه في تلك المعركة الأدبية النقدية، ورمز إلى اسمه بحرف (ت). وكانت مقالاته النقدية في غاية القوة والصلابة بسبب اطلاعه على أمهات الكتب العربية في مجال الشعر والأدب، وحفظه أقوال الشعراء والأدباء العرب منذ العصر الجاهلي وحتى عصره. في العام 1950م صدرت مجلة «صوت البحرين»، وساهم مع مجموعة من الشباب في إصدارها، واستمرت حتى العام 1954م. وتشكل المجلة ابرز المجلات التي صدرت في البلاد في الخمسينات، واهتمت بأمور الفكر والأدب وكان لها رواجها بين القراء العرب في معظم بلدان الوطن العربي. وكتب التاجر الكثير من المقالات النقدية في المجلة، وكانت له عناية خاصة بالترجمة من الانجليزية إلى العربية، وكتب الكثير من افتتاحياتها ما أثرى صفحات المجلة طيلة سنوات صدورها.

لم يقتصر دوره على الكتابة فقط، بل كان له دور فاعل في تأسيس نادي العروبة في العام 1939م، وسعى جاهداً مع مجموعة من المؤسسين إلى تحقيق أهداف النادي الرامية إلى الاهتمام بالفكر والثقافة والأدب، والعمل على تنمية روح الوحدة الوطنية، وبث الوعي الاجتماعي والقومي بين أعضائه، ومحاربة الطائفية بجميع أشكالها. ونالت مكتبة النادي عنايته الخاصة فزودها بمجموعة من كتبه، كما كان يقدم رؤاه الخاصة بتزويد المكتبة بالصحف والكتب والمراجع العربية والإنجليزية التي تحتاجها المكتبة. تعرفت على الاستاذ علي التاجر من خلال ملازمتي لأديب البحرين الكبير إبراهيم العريض الذي وجدته يكن حباً شديداً للتاجر، ويشيد بدوره في مجال الأدب والبلاغة والنقد. وأثناء زيارتي دبي في شهر يونيو / حزيران العام 2001م التقيت الأستاذ علي التاجر بمكتبه، فوجدته كما قال عنه العريض: شخصية أدبية فذة ومتميزة. وكنت استمع إليه بدهشة واستغراب. فهو يستهويك بأسلوبه السلس، وبعباراته الرقيقة وبحديثه المتواصل الذي يتدفق كالسيل العرم، وبكلماته الموزونة التي يصبها في قوالبها الصحيحة، حتى يخيل اليك أنك أمام الفراهيدي أو الجاحظ، أو المنفلوطي في العصر الحديث. وهنا تذكرت إشادة العريض به، ووجدت نفسي أمام عالم من علماء اللغة العربية وحجة فيها.

أبلغته بأنني جمعت أعداد مجلة «صوت البحرين» التي كان هو أحد مؤسسيها، وانني أرغب في إعادة طباعتها نظراً إلى قيمة الأعداد الموجودة تاريخياً وصحافياً وثقافياً، فبارك جهودي وتمنى أن يحصل على نسخة بعد إعادة طباعتها، وتمت فعلاً إعادة طباعتها في العام 2003م. وفي جانب آخر أبلغته بمشروعي الثاني المتمثل في اصدار كتاب يوثق الحركة النقدية في البحرين منذ بداياتها، وستكون المراسلات التي تمت بينه وبين العريض في العامين 1938 و1939م أولى فصول الكتاب. وهنا ابتسم التاجر وقال: كانت فعلاً (يقصد الرسائل) بدايات حركة النقد الأدبي في البحرين. وتمكنت بعون من الله من جمع مادة الكتاب وإصداره في هذا العام (2006م) تحت عنوان «النقد الأدبي في البحرين خلال القرن العشرين». وللأسف الشديد أن هذا العام شهد رحيل التاجر قبل أن يحصل على نسخة منه. وأثناء حديثي معه همس في أذني قائلاً: لقد انتهيت للتو من إعداد كتاب عن البحرين يتضمن تاريخها الحضاري والثقافي. فسألته عن العنوان الذي اختاره للكتاب، فرد كعادته: ستعرف ذلك فيما بعد. وقال إنه عرض الكتاب على نخبة من المثقفين المعاصرين له، وأخذ ببعض الآراء التي أبديت، إنه سيكون عملاً موثقاً بالمعنى الصحيح.

ويبقى السؤال: هل مازال الكتاب مخطوطة على درجه لم تطبع؟ فاذا كان الجواب نعم، فلماذا لا يرى النور هذا العمل ليخلد صاحبه، كما خلدته مقالاته في صحافتنا المحلية والعربية. وها نحن اليوم قد فقدنا أديباً وناقداً وصحافياً ومفكراً من الطراز الأول، أفنى زهرة شبابه في تفعيل النشاط الثقافي وبناء مؤسساته وتطوير الصحافة المحلية وتشجيعها في فترة شهدت جبروت المستعمر وقسوته وهي فترة الاربعينات والخمسينات من القرن الماضي، كان المستعمر حينها يضع الكثير من المعوقات والصعوبات أمام الصحافيين وناله ما ناله من أذى جراء جرأته في طرح رؤاه وأفكاره المتشبعة بروح الإصلاح والوطنية الصادقة ومحاربة الطائفية والعمل على تجفيف منابعها.

إن ما يؤلم النفس ويحزن القلب أن يكون خبر رحيله يمر وكأن البلاد لم تفقد أحد أعمدة الفكر والثقافة والصحافة التي ضحى من أجلها، وبذل كل ما يملكه من مال وجهد ووقت في سبيلها. إن الجزاء من الله عز وجل وسيبقى في ذاكرة الوطن وجزءاً من تاريخه

إقرأ أيضا لـ "منصور محمد سرحان"

العدد 1343 - الأربعاء 10 مايو 2006م الموافق 11 ربيع الثاني 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً