العدد 137 - الإثنين 20 يناير 2003م الموافق 17 ذي القعدة 1423هـ

يا حكومة... يا حكومة

فن التنصل «الأَريحَ» وتفنن نقد الآخر

غسان الشهابي comments [at] alwasatnews.com

من أسوأ ما أمدّتنا به السياسات العربية من عادات وتقاليد (أصبحت هي أيضا أصيلة وراسخة)، أنها أبعدت الناس عنها ليهتموا بأمورهم، ويدَعوا ما للحكومة للحكومة. ذلك ربما لأن كل الأنظمة العربية منذ فجر تكونها كانت تعتمد على نخب مثقفة و/أوعسكرية، القوة المعرفية والقوة العسكرية، تتربع على قمة الهرم المجتمعي الذي غالبا ما ينخره الجهل والأمية والأمراض والسعي القاتل لتوفير بالكاد القوت اليومي، وبالتالي، فمن أين لقاعدة الهرم هذه أن تسهم في بناء الدولة والمجتمع، وعندها يكفي المتنفذون الناس عناء التفكير والتخطيط، ويمركزون أدوات صنع القرار لديهم حتى تخرج قرارات وقوانين لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وعلى الناس التطبيق... هل هناك ما هو أجمل و«أريح» (أكثر راحة) من هذا؟

إلا أن اتساع طبقة المتعلمين، والمثقفين والمتصلين بالخارج، صار أكبر مما اعتقدته الحكومات هذه، وصاروا هم «وبالا» على الحكومات ذاتها، وهم المزعزعون لعروشها، والمطالبون بالإصلاحات بنظرات بعيدة المدى، لوضع استراتيجيات حقيقية لمكافحة الأوضاع المعوجّة بدلا من ترقيع الحلول، وبدلا من الاستغراق في معالجة المشكلات الفردية للشعب، بمنح هذا قطعة أرض، أو بعلاج ذاك المواطن، أو التكفل بنفقة دراسة آخر.

وبجانب أشكال المشاركة الشعبية المتفاوتة بين قُطر عربي وآخر، من صورية وغير موجودة أساسا؛ ظلت الحكومات تفعل فعلها، وظل اسم الحكومة له بريقه الأخاذ، وسطوته التي لا تجاريها سطوة، وبقيت مرتبطة بالشوارب المفتولة، والنظرات الحادة، والوجوه المتجهمة.

هذه الوضعية المركزية للحكومات العربية ربما شابهتها الحكومات الأخرى في العالم الثالث إسلامية كانت أو غير إسلامية جعلت الأمر سهلا على المطالبين بحقوقهم بالاسترخاء شيئا ما مادامت هذه الحكومات استلذّت التفرد بالسلطات الأربع معا، وصار الناس غارقين في توجيه كل اللوم إلى الحكومة في كل ما يجري، ملقين عن كواهلهم الدور الذي عليهم أن يؤدوه أولا قبل انتقادهم للحكومات.

لنكن أكثر تحديدا فنتناول الشأن البحريني الخاص.

إذ أن الكثير من المعارضين والمثقفين والكتاب و«الكتبة» لا يحلو لهم الكلام أو الكتابة إلا بقذف الحكومة هنا بالتقصير والإهمال وتحميلها كامل المسئولية عما يجري في أي شأن من الشئون، حتى يكاد البعض ليبالغ ويتهم الحكومة بأنها وراء ارتفاع حرارة الجو في الصيف، مأخوذين بالنشوة الكبيرة التي يحدثها هذا الخطاب في أوساط زملائهم، والأوساط العامة والتي تصفهم بـ «الجرأة» و«القلم الحر» و«النزاهة»، وأن أي رأي آخر مضاد للرأي المطروح من قبل «الحر النزيه» هو رأي «عميل للسلطة» (وكأن السلطة لا بد وأن تكون عدوة للشعب أو أجنبية عنه حتى يصبح الإنسان عميلا لها)، وأن من يمتدح شأنا رسميا يقذف بـ «التمصلح» أو الطمع في كرسي أو منصب أو عطية أو هدية، أو أنه يرتب وضعه لكي يحوز أحدها في المرات المقبلة إن فاته تشكيل وزاري أو «شوري» أو حتى إداري.

ولأن للجماهير سطوة وسحرا خاصين، فإن هتافاتهم المؤيدة لكاتب أو مثقف أو مناضل من شأنها أن تصم هذا الإنسان وتصيبه بالدوار اللذيذ، ينتشي بما يسمع، فيزيد من «تألقه»، ويفكر عندما يصحو من النوم في الكيفية التي يرضي بها جماهيره، ويشحذ (أو يشحت) همتها من جديد للتصفيق له، منتقيا بابا جديدا في مهاجمة الحكومة حتى بات البعض يتسمى بـ «السيد (لا)» لكثرة معارضته لكل شاردة وواردة - ويعمل من حيث يدري أو لا يدري - على جعل النهار الوطني أسود من الفحم، وأمرّ من الحنظل، فكل ما يحيط بالمواطن هو مجموعة عوامل مؤلفة من الإهمال والتسيُّب والسرقة والغش والخداع والتدليس والسمسرة غير المشروعة والطائفية والقبلية والعرقية وغيرها.

وبالتالي، نرانا في الكثير من المسائل اليومية، البسيطة منها والمصيرية، لا نلتفت إلا إلى الحكومة لنطالبها ونسائلها عما فعلته في هذا الموضوع، ولكن هل فكرنا بمساءلة أنفسنا يوما ما؟

نأتي مساء من مؤسسات عامة وخاصة مختلفة لحضور المنتديات واللقاءات والمجالس، ونتهم الحكومة بدم بارد بأنها تمارس التمييز الطائفي في التوظيف، غير ملتفتين إلى ما يمارس (أو نمارسه نحن) في مؤسساتنا الخاصة في هذا الأمر، فكم من مصرف لا يشتمل إلا على عرق معين من طائفة معينة، وكم من شركة لا يدري من يمحص أسماء موظفيها إن كانت عائلية طائفية أم أنها شركة وطنية، بل وللحكومة إسهام وأسهم فيها، وكم من مؤسسة صناعية أو خدمية لا تستحي أن تؤكد هذا النهج على الملأ، ولكننا في النهاية نتعلق بـ «تلابيب» الحكومة على أنها صاحبة المشكلة والحل، وأنها هي وحدها من يمارس هذه السياسة، وهذا أيضا أمر يحتاج إلى المجهرة، ففي حين يتكدس أبناء طائفة معينة في وزارة ما، يتكدس أبناء طائفة أخرى في وزارة أخرى، وبين هذه الوزارة وتلك أيضا هناك تشريح أدق لأعراق وإثنيات وروابط دم ووشائج قربى تقوم مقامها العالي الأكيد، فَتَنْدَسُّ في أقسام ودوائر من هذه المؤسسات والوزارات وتصبح حكرا عليها.

وعلى الصعيد الآخر، ترى لسانا ممتدا من الكراجات لتصليح السيارات، و«قد» تجد فيها صاحبها البحريني محاطا بعدد كبير من العمال الأجانب، فتسأله: «لماذا لا توظف بعض المواطنين... ولو على سبيل التدريب؟»، فتأتي الإجابة: «إذا كانت حكومتك لا توظفهم وتفضل الأجنبي عليهم، تريدني أنا أوظفهم؟ هكذا شعب لهكذا حكومة»، هكذا يكون الهروب أسهل من الفعل والممارسة.

وبغض النظر عن هذا الجواب المتهرب من تحمل المسئولية، فالقطاع الخاص يستوعب اليوم 157,4 ألف عامل في مختلف الاتجاهات، منهم 104,3 آلاف عامل أجنبي، كما هو مسجل لدى التأمينات الاجتماعية، أي أكثر من ضعفي ما يشتمله القطاع العام، وهو (القطاع الخاص) الأكثر حيوية وحركة ونماء وتطورا، ومع ذلك، فإن التركيز على جهات بذاتها في القطاع الحكومي على اعتبار أنها المفتاح السحري لحل مشكلة البطالة، أمر لا يخلو من المغالاة الذاهبة صوب إلقاء اللوم في كل شاردة وواردة على الحكومة، فيما القطاع الخاص يتحمل من المسئولية المجتمعية أقلَّها في هذا الباب.

الأمر لا يقتصر على التوظيف فحسب، ولكنه يمتد إلى الخدمات التي تقدم إلى المجتمع بأسره، من دون تفريق أو تحيز، ومن دون الحاجة إلى رفع «الظلامات»، وتنظيم الاعتصامات، فلنحسب مَنْ مِنْ كبار تجارنا الكرام أسهم في افتتاح عيادة عامة في مستشفى السلمانية أو ما يليه من مراكز، وكم منهم أيضا من أنشأ مكتبة عامة، أو قاعة دراسية في الجامعة، أو موّل أجهزة حديثة في الصحة أو التعليم أو التدريب ليستفيد منها الناس، كل الناس، سنجد أن أسماء المتبرعين وأسرهم تكاد لتتكرر، على مرّ السنين، وكأن الآخرين الذين أثروا من خيرات هذا الوطن لا علاقة لهم به، ولولا مخافة الفتنة لنشرت قوائم أسماء المسهمين في هذا المجال من المحجمين عنه، ليَبِينَ الخبيث من الطيب.

بل ليسائل الناس أنفسهم «ماذا قدمنا لوطننا حتى نحاسب الحكومة هذا الحساب العسير؟»، هل تنظيف السواحل بين فترة وأخرى، وطبق خير هنا، وإقامة مهرجان مرتبك هناك يعد أمرا ذا قيمة كبرى في هذا الشأن؟ قبل أن نحاسب الأجهزة البلدية عن نظافة شوارعنا، هل تساءلنا لماذا نسكت عمن نراه جهارا نهارا يرمي بغير ما اكتراث ما يجعل هذه الشوارع متسخة؟

فلابد لنا أن نعطي حتى نطالب، ويكون لمطلبنا وجه حق مشروع، فما لم نتعلم جميعا أن «نكسر» في داخلنا هذا التمايز في القطاع الخاص في التوظيف أساسا، أو في الترقي، أو في مدّ الخدمات إلى الناس كافة من دون تمييز... قبل أن نمارس نوعا من الصيام عن شهوة تقريب أهل الملَّة والطائفة، وتقريب الكفاءة... قبل أن يكف كل طرف عن الإشارة إلى الآخر بأنه طائفي وأنه هو المنزه فقط عن هذه التهمة... قبل أن يكون الهاجس هو الوطن والركيزة التي لا نتخلى عنها وليست الانتماءات الضيقة، وقبل ألا نصبح كلنا «عملاء» متطوعين لهذا الوطن؛ لا يمكننا أن نقف أمام حكومتنا أيّا كانت تركيبتها لنطالبها بتحقيق العدالة على كل المستويات وثيابنا ملطخة بأدران حق علينا أن نطهرها قبل أن نخرج بها أمام الملأ

إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"

العدد 137 - الإثنين 20 يناير 2003م الموافق 17 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً