العدد 1386 - الخميس 22 يونيو 2006م الموافق 25 جمادى الأولى 1427هـ

عندما ينطق التاريخ... بناء دولة عصرية لا يتم قسراً

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

عندما كانت أوروبا تشق عنان السماء تقدما ورقيا، وخصوصا في أواسط القرن الثامن عشر، انتبهت دولة الخلافة العثمانية فجأة، وتلفتت يمنة ويسرة وإذا تجد نفسها متخلفة حقبا شاسعة. وفي الوقت الذي كانت الدول الأوروبية في اندفاعة سريعة وقوية نحو نهضة شاملة، وخصوصا بعد الثورتين الفرنسية والصناعية (انظر: «العثمانيون»، لمحمد سهيل طقوس) تحرك السلطان العثماني بفعل الانحطاط الذي بدأ يأكل الدولة على أساس الاقتداء بالغرب واقتباس نظمه، ولكن سلاطين بني عثمان، وبدل أن يبدأوا بإصلاح دستوري يعطي دورا حقيقيا لمساهمة الشعوب المهمشة في طول وعرض السلطنة المترامية الأطراف، وضعوا أرجلهم ومن أول خطوة على الطريق الخطأ، إذ قام السلطان بإصلاحات عدة من دون اعتبار للفروقات بين شعوب السلطنة المسلمة والشعوب الأوروبية، والاختلافات بين الأسس التي قامت عليها النظم الغربية وتلك التي قامت عليها الخلافة الإسلامية العثمانية.

وفي طريق هذه الإصلاحات في القرن التاسع عشر، تم إلغاء كل التشريعات والقوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية، واستبدالها على جميع الأصعدة بالقانون النابليوني كما يذكر ذلك جورج قرم في كتابه «التبعية الاقتصادية»، واستثنى السلطان من تحركه هذا الأحوال الشخصية إذ تركها وفق الشريعة الإسلامية. وفي عصر السلطان عبدالعزيز ( - ) ألغى تعدد الزوجات، وسعى إلى مواصلة ما بدأه أسلافه من إصلاح.

الدول الأوروبية استغلت الوهن الذي يسري في جسد الرجل المريض (تركيا) - كما أطلقوا على الدولة العثمانية حين اقتربت من الانهيار - فسارعت أوروبا بعد انتهاء حرب القرم بين روسيا من جهة والعثمانيين بمساعدة انجلترا وفرنسا من جهة أخرى، والتي خرجت منها السلطنة العثمانية مرتبكة ومتخبطة، باشتراط إصدار مرسوم جديد للإصلاح سنة ، ضمنته الكثير من المواد مما لا ينسجم مع الحالة الإسلامية وهوية شعوب دولة الخلافة العثمانية. وفي طريق التماهي مع متطلبات البلدان الأوروبية وكسب رضاها، اصطدم السلطان العثماني مع الهوية الإسلامية في كثير من مطالب الإصلاح تلك. ولقد جرت هذه الحركة الإصلاحية على السلطنة الكثير من المشكلات، إذ تلقت مصالح بعض الفئات المتضررة من الإصلاح مع نقمة الناس الذين رأوا في هذه الحركة تهميشا للشريعة الإسلامية. إضافة إلى ذلك كله، فقد تم فرض الإصلاحات من أعلى من دون إشراك للجماهير. وعندما وجدت السلطنة نفسها في ضائقة مالية كبيرة نتيجة كثرة الحروب السابقة، اضطر السلطان عبدالعزيز إلى استدانة مبالغ كبيرة من أوروبا (انجلترا تحديدا)، ولكن نتيجة غياب دور رقابي للناس وفق دستور متفق عليه، بددها السلطان على مشروعات غير إنتاجية، وانفق منها الكثير على رحلاته ورغباته.

سوء التخطيط والاستبداد بالرأي من دون إشراك القاعدة الجماهيرية، دفعا النخبة الحاكمة لاستقدام نتاج التكنولوجيا بدل استنباتها في السلطنة من اجل بناء الدولة العصرية على غرار الدول الأوروبية، فقد جاء في المرسوم المشار إليه آنفا بشأن تنظيم السلطنة العثمانية العام : «سوف تتخذ الإجراءات لإنشاء المصارف وسائر المؤسسات المشابهة... وستتخذ كذلك الإجراءات لإنشاء الطرق والأقنية بغية تسهيل المواصلات وإنماء مصادر الثروة في البلاد».

هذه العبارات الجميلة لم تنقل البلاد إلى مصاف الدول العصرية آنذاك، إذ إن تهميش الناس في مثل هذه القرارات حتما لن يؤدي لتفاعلهم مع مشروعات السلطان، وإذا بالسلطنة وبعد فترة وجيزة تقع تحت عبء ثقيل من الديون الضخمة ذات المبالغ الخيالية التي تراكمت بسرعة لصالح الدول الأوروبية من دون أن تتقدم السلطنة خطوة واحدة للأمام، بل كانت هذه الإصلاحات المقدمة لسقوط السلطنة وتجزئتها. ويشير محمد سهيل طقوس في كتابه إلى أن الإصلاحات وقفت في منتصف الطريق، ويرجع ذلك لعدد من الأسباب، منها أن هذه الإصلاحات منها ما هو غريب على الشعوب الإسلامية، ما أدى لحصول فجوة بين أنصارها وبين الناس.

يبقى أن في التاريخ بطوله وعرضه، لم تبن دولة عصرية بقسر الناس، ولكن بتغيير القناعات، والتحرك يبدأ من القاعدة تجاوبا مع قمة الهرم، وهذا هو الحال مع كل الدول الحديثة والعريقة في ديمقراطيتها. وبناء دولة عصرية تقود لتحقيق التنمية يحتاج إلى تضافر جهود كل شرائح الشعب مع مشروعاتها. وبينما الدولة الحديثة في أوروبا قامت على التوافق والرغبة الشعبية، ونبعت من الشعب ذاته، نلاحظ في الشرق محاولات تتسم بالقهر من قبل النخب الحاكمة بفرض النموذج الذي ترتضيه من دون القدرة على إقناع الناس، ولهذا يستمر التنافر والصراع بين السلطة والكثير من فئات المجتمع وخصوصاً علماء الدين المؤثرين في الساحة بسبب سعي الدولة إلى فرض مشروعاتها رغما عنهم، وبالتالي رغما عن قطاع لا يستهان به من الشعب يجد فيهم ثقة وقناعة لم يجدها طيلة عقود طويلة في الدولة.

وإذا جئنا للملف المحلي، نجد تلكؤا في الاستمرار على الطريق الذي دشنه ملك البلاد، فبدلا من التركيز على الملفات التي تلامس حاجات الناس؛ تستنزف جهود مختلف الأطراف والفئات بما فيها الحكومة على ملفات، إن لم نقل إنها أقل أهمية في نظر الغالبية الساحقة من الناس، فبالإمكان القول إنه يمكن إرجاؤها والسعي إلى تحقيق التوافق بشأنها بدلا من جعلها عقبة كأداء مثلها مثل عصا حشرت فجأة بين عجلة درجة هوائية مسرعة.

ثم إن بناء دولة عصرية ذات سمعة طيبة يلزم من الحكومة العناية بكثير من الملفات التي تسيء للدولة وتشوه وجهها الحضاري أمام الآخرين، كملف التمييز الطائفي والتجنيس والملف الدستوري ومشكلة الفقر والبطالة والاختناق الإسكاني، وتعثر جهود التنمية الاقتصادية وخصوصا في تنويع مصادر الدخل. إن البناء والتنمية وحلحلة هذه الملفات العالقة والمهمة لحياة المواطن غير متوقفة على إنجاز الملفات الحساسة دينيا بالكيفية التي تراها الجهات الرسمية كملف كادر الأئمة.

وبناء دولة عصرية وفي الوقت نفسه المحافظة على الهوية الإسلامية للبلد كما كرر ذلك كبار المسئولين، يلزم كسب تعاون المؤثرين من الرموز الاجتماعية وبالذات علماء الدين والحصول على دعمهم، فهؤلاء ليسوا «أكليروس» جديداً يود مشاركة الدولة في السلطة من أجل مصالح دنيوية ومكاسب مادية وطمع في مزيد من المال والنفوذ، كما يحلو لبعض الكتاب تصويره على خلفية أزمة كادر الأئمة، في مقارنة سمجة مع أوروبا العصور الوسطى.

لهذا وذاك من الأسباب، من المهم التوافق بين السلطة والناس المستهدفين من القوانين والمشروعات التي تسعى إلى فرضها، وخصوصا أن الدستور مازال الخلاف عليه ناشبا، إذ لا يمكن من خلاله استصدار قانون واحد اعتمادا على الإرادة الشعبية البحتة إلا بضوء أخضر من الحكومة، وفرض بعض المشروعات والقوانين ذات الخصوصية المذهبية تحت دعوى دستوريتها كما تنقل هذه الصورة بعض الناشطات للخارج، ومع علم الجميع بتفوق السلطة التنفيذية (الحكومة) على السلطة التشريعية (المجلس النيابي) دستوريا، حتما سيثير الكثير من المشكلات المعوقة للإصلاح، فحتى دستور ذو صبغة ديمقراطية توافقية، وفي الممارسة العملية على الأرض، تتم مراعاة الكثير من الخصوصيات بشكل تلقائي لمختلف الأطراف والطوائف

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1386 - الخميس 22 يونيو 2006م الموافق 25 جمادى الأولى 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً