العدد 140 - الخميس 23 يناير 2003م الموافق 20 ذي القعدة 1423هـ

بوش... بوش... ماذا بعد؟

بشير موسى نافع comments [at] alwasatnews.com

.

قبيل انتخابه، بدا الرئيس بوش، رئيسا انعزاليّا. اراد الالتفات إلى الداخل الاميركي، والاهتمام بالمحيط الجغرافي المباشر للولايات المتحدة، كالمكسيك ومشكلة الهجرة غير الشرعيّة. كما اراد الانسحاب من مشاكل العالم، وسحب القوات الاميركية المشاركة في مهمات حفظ الامن. اراد ان تكون اميركا المحور الاساس الذي تدور عليه شئون الكرة الارضيّة، على ان يتعلّق الدوران في طبيعته ومدّته، بالمشيئة الاميركيّة. رأى العالم بصورة مبسّطة جدّا. رآه من خلال الصورة المانويّة والتي تقوم في المبدأ على بُعدين فقط، خير وشر، نور وظلام... الخ. فيكون بذلك قد خان فيلسوفه المفضّل، السيّد المسيح، وديانته المسيحيّة والتي تقوم على ثالوث مقدّس. اعتبر الرئيس بوش ان انتخابه، شكّل نقطة تحوّل كبرى في العلاقات الدوليّة. فالمرحلة الحاليّة، أي ما بعد الحرب الباردة، هي مرحلة جديدة في صورتها، تحالفاتها، قواها ومخاطرها. لذلك، رأى الرئيس بوش ان من واجبه الاساس، العمل على ابتكار مقاربة جديدة للتعامل مع هذا العالم، تقوم على استراتيجيّات جديدة، والتي بدورها تتطلّب وسائل من نوع جديد. وبعد حسابات واستشارات متعدّدة وكثيرة، سأل الرئيس بوش نفسه: على ماذا يقوم النظام القديم؟ وما هي مراكز قواه وضوابطه؟ وفي الجواب على هذا الامر استنتج ما يأتي: يقوم النظام القديم على التوازنات الكبرى، المرتكزة على التركيبة العالميّة للقوى الكبرى والعظمى. وهذا مبدأ يعتقد به الصينيّون. وضوابطه الاساسيّة، أي النظام، تقوم على ما اتّفقت عليه سابقا التركيبة العالميّة والقوى الكبرى والعظمى، من معاهدات، مؤسسات ومرجعيّات عالميّة، كانت مهمتها الرئيسة، نزع فتائل التفجير من الساحة العالميّة تجنبا للخضّات الكبرى. والهدف كان، ألا تذهب القوى، الكبرى منها والصغرى، إلى العنف مباشرة، قبل المرور بمراحل حلّ النزاعات (عبر المؤسسات الدولية، والمعاهدات). بكلمة اخرى، كان الهدف من كل هذا، تأمين الاستقرار والسلام العالميّين. لذلك وعندما قرّر التغيير ونسف النظام القديم، أقدم الرئيس بوش على ما يأتي:

مسخ صورة المرجعيّات الدوليّة

الاستخفاف بالقوى الاخرى، عبر التعالي عليها

ضرب المعاهدات الدوليّة

لماذا تصرّف الرئيس بوش هكذا؟

يعود الامر إلى ما يُسمّى بالادراك الحسّي، للذات وللآخر. فهو يرى نفسه، واميركا فوق العالم، خصوصا بعد سقوط الدب الروسي. كذلك الامر، يعتبر ان الساحة العالميّة اصبحت مشرّعة له، فلماذا مُشاركة الاضعف فيها؟ كلّ هذا يحصل، في الوقت الذي لم يتقدّم احد للمنافسة، الامر الذي زاد من إدراكه الحسّي الخاطئ لمدى قوّته، ومدى ضُعف الآخر.

أتت حوادث 11 سبتمبر/أيلول لتذكّر الرئيس بوش ان درجة معطوبيّة اميركا الداخليّة كبيرة جدّا. وأن اميركا، لا يمكن ان تنعزل عن باقي العالم. لكن هذه الحوادث، وبدلا من ان تجعل الرئيس بوش يعي بالعمق انه لا بديل من التعاون مع الآخر، نراها تقنعه أكثر بآحاديّة القيادة الاميركيّة للعالم. الامر الذي جعله ينساق اكثر إلى التسرّع في دفن ما تبقى من نظام الحرب الباردة. لكن الخطر اصبح، في عدم وجود نظام بديل. أو يمكننا القول هنا، انه لا يوجد نظام بديل متّفق عليه. وجُلّ ما هو متوافر، هو ما قدّمه بوش الابن. من هنا تأتي الكارثة.

اقتنع اكثر الرئيس بوش في صدقيّة نظرته ووعيه للعالم (المانويّة)، فزاد إيغالا فيها. وراح نتيجة لذلك، يصنّف العالم علنا بين خير وشرّ. ونصّب نفسه حكما ونائبا لفيلسوفه، مهمته الارضيّة تقوم على معاقبة المُخالف، انطلاقا من المقاييس التي يضعها هو. وبهدف مأسسة هذه الصورة على ارض الواقع، عمد الرئيس بوش إلى إطلاق الاستراتيجيّات المناسبة، وإلى تأمين الوسائل الكفيلة بالنجاح. فكانت عقيدة «الضربة الاستباقيّة»، وشعار دول «محور الشر»، نتاج هذا الواقع.

ما موقف العالم من سياسات بوش الابن؟

باختصار، موقف قلق، حائر لا يعرف سبيلا إلى حلّ قريب. ما هي خيارات هذا العالم؟

يريد العالم جلب النسر الاميركي إلى طاولة مستديرة، للتباحث والتفاوض معه بشأن مصير العالم، وكيفيّة إدارته. الاميركي يقبل بذلك، على ان يدير هو الجلسة، ويفرض ما يريد. يريد العالم التمسّك والعودة إلى اسس النظام القديم حيث القوى متعادلة (مجلس الامن مثلا). يريد بوش استغلال هذه الاسس إذا تطابقت مع مخططاته، وضربها إذا تعارضت. هل هذا مشروع في العلاقات الدوليّة؟

نعم طالما المستفيد منه يبقى قادرا على حمايته وفرضه. اميركا حتى الآن قادرة، وهي تحاول إبقاء هذا الوضع الملائم لها (الستاتيكو). لكنه وفي نفس الوقت، هناك قوى وتحديات بدأت بالتشكّل للوقوف في وجه هذا الستاتيكو. تندرج المسألتان، العراقيّة والكوريّة في هذا الاطار. فماذا عنهما؟

إذا قسّم الرئيس بوش العالم بين خير وشرّ، وإذا توعّد بضرب الشرّ، وإذا أراد نشر الديمقراطيّة، وإذا تعالى على باقي دول العالم، يبقى عليه إثبات ذلك. فمن واجبه كقوّة عظمى، أن يفي بوعوده. لذلك من المنتظر ان يضرب الشر، عفوا ان يستبقه. ومن واجبه ان ينشر الديمقراطيّة. وعكس ذلك يعني الفشل. لكن، هل هو مُلزم بالتنفيذ؟ الجواب هو نعم، لانه أعلن على الملأ ذلك. فاستراتيجيّاته اصبحت علنيّة، شفّافة، لا اسرار فيها، وذلك بعكس كل ما هو متعارف عليه في هذا المجال، إذ كان من المفترض ألا تُعلن الاهداف، ولا الاستراتيجيّات على الاقل للابقاء على عامل المفاجأة. اين الصعوبات في المهمّة التي تبنّاها الرئيس بوش؟

الصعوبة في انه تبنّى تحقيق الامن الداخلي الاميركي (وهذا امر طبيعي)، كما تبنّى منفردا الامن العالمي، وهنا تبدو الصعوبة والخطورة.

ماذا عن العراق؟

أصبح لزاما على الرئيس بوش تنفيذ ما توعّد به تجاه العراق، على الاقل تغيير النظام. وما عدا ذلك، يعتبر تراجعا. فالمنطق الاستراتيجي يحتّم ان يُحقّق الرئيس بوش اهدافا، يكون مردودها الايجابي عليه وعلى اميركا، اكثر بقليل من الكلفة التي استُثمرت. لذلك هناك صعوبة كبرى في تقدير هذا المردود. فالحشد الاقصى للعم سام ضد العراق، قد يجعلنا نخمّن ان هذا العراق قد يُلحق بأميركا (الولاية 51)، كي يكون مردوده ايجابيّا على الرئيس بوش. وإلا فما معنى هذا الكرنفال العسكري؟ حتى ان، وكي تستمرّ مصداقيّة الرئيس بوش، وجب على اميركا أنه تنتهي من العراق بسرعة، وبأقل خسارة ممكنة. حتى ان الانتهاء من العمليات العسكريّة، لا يعني ان الامور انتهت إلى غير رجعة. فالتحدّي لما بعد صدّام، قد يكون اكثر بكثير من الرئيس صدّام نفسه. فأميركا وبعد نصف قرن، لاتزال في اليابان وفي المانيا، وهما الدولتان الديمقراطيّتان. لذلك وجب علينا التنبّه إلى الحدّ الادنى المقبول للاهداف الاميركيّة في العراق. فيقول البعض: ماذا لو تنحّى الرئيس صدّام؟ نقول اميركا تريد اكثر من هذا بكثير.

ماذا عن كوريا؟

حتى الآن، لم يفِ الرئيس بوش بوعوده تجاه شرّ كوريا الشماليّة. فهو يتراجع، وهي تُصعّد. تريد هي النووي، يقابلها الرئيس بوش بالحوار، وبوعود إرسال المزيد من المساعدات. وقد يحار المرء في تفسير هذا السلوك الاميركي. ويقول البعض، ان الرئيس بوش يريد تقسيم المشكلة الكبرى إلى أجزائها، فيعالجها بالتقسيط على غرار «استراتيجيّة الارضي شوكي». ويقول البعض الآخر، ان الانتظار قد يعني تحوّل كوريا الشماليّة إلى دولة نوويّة، لان الوقت يعمل لصالحها. من هنا تبدو معضلة الرئيس بوش تجاه هذا الوضع. فهو غير قادر على العمل العسكري، وغير قادر على الحلّ السياسي السريع في الوقت نفسه. وفي الحالتين يبدو ان رصيده بدأ يتآكل.

في الختام، ترتبط صورة اميركا المستقبليّة مباشرة بما سينتج عن الازمتين، العراقيّة والكوريّة الشماليّة. فكي تستمر الهيمنة الاميركيّة على مصير العالم، وكي يبقى الستاتيكو الذي تريده اميركا، وجب تحقيق ما يلي:

الانتهاء من العراق بسرعة، وبأقل خسائر ممكنة.

تأمين مرحلة ما بعد صدّام بشكل مقبول على الاقل من الناحية الانسانيّة.

تطمين الدول المحيطة بالعراق بأن امنها ليس مهددا، وهي ليست مستهدفة. كذلك الامر تطمينها على ان إسرائيل ستكون مثلها مثل باقي الدول، وليست «شريف المنطقة الاميركي».

وجب العمل فورا على إيجاد حلٍّ عادل للقضيّة الفلسطينيّة (نتساءل كيف؟).

يجب على اميركا ان تنجح في وقف المشروع النووي الكوري الشمالي.

يجب عليها ان تتشارك مع الدول المحيطة بكوريا الشمالية لايجاد حل يناسبها.

في حال العمل العسكري على كوريا الشمالية يجب النجاح بالمهمة من اول مرّة، أي ضرب المشروع النووي.

يجب ايضا، ألا تكون ردّة الفعل الكوريّة الشمالية العسكرية شاملة إلى درجة تهدّد كل جنوب شرق آسيا.

يجب أن يثبت الرئيس بوش للعالم وللاميركيّين ان الارهاب لا يزال الخطر الاكبر على الامن العالمي، وهو ليس حجّة ظرفيّة تُستغلّ لاهداف ابعد بكثير. لان فشل الرئيس بوش في إثبات هذا الامر، قد يعني ان العالم لم يتغيّر كما يدّعي، وان حوادث 11 سبتمبر هي مثلها مثل باقي الحوادث الامنيّة المهمة. ولا يجب بالتالي تغيير التركيبة العالميّة، وضرب اسس النظام القديم، الامر الذي يحتّم العودة إلى الطاولة مع القوى الاخرى وعدم التفرّد بمصير العالم.

لذلك يبدو الفشل الاميركي في المشروعين، خطرا جدّا على صورة الرئيس بوش، وبالتالي على صورة اميركا. فالفشل في العراق، قد يُلهب المنطقة ويضعها على شفير اسلحة الدمار الشامل، وقد يُخرج اميركا منها. اما الفشل في كوريا، فقد يقلب كل الشرق الاقصى إلى جحيم من النزاعات. ومن يدري، فقد يستعمل النووي للمرّة الثانية في التاريخ في المنطقة نفسها، ومن الدولة نفسها. فهل هذا ما يريده بوش؟ لذلك نسأل، بوش، بوش، ماذا بعد؟

العدد 140 - الخميس 23 يناير 2003م الموافق 20 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً