العدد 1400 - الخميس 06 يوليو 2006م الموافق 09 جمادى الآخرة 1427هـ

ملفات الخلاف لا تستدعي توقف قافلة الإصلاح

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

من النقاط المثيرة في تجربة الحركة الإصلاحية التي قام بها سلاطين بني عثمان وبالذات في القرن التاسع عشر، استعانتهم بشخصيات مغرمة بالحياة الغربية لأقصى حد، بحيث تركز اهتمام بعض هؤلاء كثيراً على اقتباس الحياة الغربية ببعديها الاجتماعي والثقافي، وربما فاقت عنايتها بهذا الجانب مسألة الاستفادة من النظم الغربية في مجال تحديث الحياة الاقتصادية والإدارية، والمشاركة السياسية، بينما هذه هي المحاور الأساسية الذي ولجت بها أوروبا لعالم الرقي والعروج لآفاق جديدة من الازدهار.

لقد استند الإنسان الأوروبي على مرجعية واضحة جداً، آمن بها وقدسها، وهي الفردية القائمة على النظام الديمقراطي الرأسمالي، فعرجوا بعيدا في آفاق العلم وسبروا أغوار السماء وكشف أسرار الفلك وتسخير ذلك كله لخدمة جهود الإنماء والرفاهية لبلدانهم، فلم يتخلوا عن هويتهم حين بدأوا يقتبسون ويستخرجون كنوز العلم من خلال ترجمة ما لدى العالم الإسلامي، ويسخرون العلوم الطبيعية باعتبارها نظريات انعكاس الضوء وغيرها من أجل التقدم المادي. والتجربة نفسها شهدنها في حق دول غير إسلامية تتحرك قدما في طريق الرفعة والتقدم كاليابان - مثلا - التي بدأت تصنيع نفسها منذ القرن التاسع عشر حين كانت غارقة في مرحلة الإقطاع، من دون التفريط في العقيدة والثقافة الوطنية.

أما في الشرق الإسلامي نجد من لا يبصرون طريقاً للوصول لمصاف تلك الدول المتقدمة من خلال العمق الحضاري للإنسان الشرقي المسلم، ويرون في التغريب طريقا يلتمسون من ورائه الخروج من شرنقة التخلف ويلحون على البدء في التغريب الثقافي الذي يمس الهوية الدينية.وهؤلاء واهمون، وسبب وهمهم أنهم يحاولون مناغاة ما حدث في أوروبا من إقصاء للكنيسة وسلطة رجال الإكليروس، وتطبيق ذلك بكل فجاجة وقلة عقل على حياة الشرق الإسلامي، بينما البون شاسع والفرق يصك السماء السابعة بين الحالتين، وليس المقام ذكر ذلك، فقد عجت بهذه البحوث الكثير من الكتب والدراسات، وما كانت أوروبا تتحرك قدما لو كانت حبيسة المنظار نفسه الذي يتحرك على ضوئه هؤلاء الشرقيون.

وما قام به بعض العثمانيين في القرن التاسع عشر، هو حركة من الشاكلة نفسها، تغريبية أكثر منها إصلاح حقيقي، إذ تم تعيين مصطفى رشيد باشا المولع بالثقافة الغربية الذي نشأ عليها، وزيرا، فقام الأخير بإرسال الشباب العثماني في بعثات تعليمية وتدريبية إلى العواصم الأوروبية لإعدادهم لتسلم مناصب حكومية، ومن ثم يضمن ولاءهم للحياة الغربية، وبمساعدة هذا الوزير أسهم هؤلاء في دفع عجلة التغريب حتى تسليم هؤلاء حكم تركيا فيما بعد، مع العلم أن الرجل قد تلا أمام كبراء الدولة في سنة فرمانا أكد أن الإصلاحات يجب أن تكون متوافقة مع الشرع الإسلامي. هذا ما ينقله الكثير من الباحثين والمؤرخين، وجزء من هذا النص مأخوذ مما نقله محمد سهيل طقوش عن Lewis B.، في كتابه The Emergence Of Modern Turkey.

مصطفى باشا هو نفسه من نسب إليه إصدار دستور يحدد الحقوق في سنة م، ثم اتضح أنه ليس سوى وعود بإدخال إصلاحات معينة، منها «احترام الحريات العامة والممتلكات والأشخاص، بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية وأصولهم القومية»، وبعد فترة من الزمن اتضح أن هذه مجرد دعاوى واسعة بسعة السماء، انطلقت نتيجة الحال المتهرئة للدولة ومنها محاولة امتصاص صدمة هزيمة العثمانيين أمام القوات المصرية آنذاك، وكذلك رغبة الدولة في تلميع صورتها أمام الدول الأوروبية وكسب تأييد لموقفها من المسألة المصرية من جهة ثانية، كما ينقل ساطع الحصري في كتابه (البلاد العربية والدولة العثمانية).أما الدستور الذي صدر سنة م فقد تم تطبيقه من خلال برلمان منتخب لمدة شهرا فقط، ثم تم تعطيله بحيث لم تفتح قبة البرلمان لمدة عاماً حتى م.

ويشهد التاريخ أن هؤلاء مدعو الإصلاح يحملون عقليات استبدادية تنظر باحتقار لعامة الناس المخالفين لهم في الميول الثقافية، وعندما تلتقي عقلية استبدادية قمعية مع روح استهزاء وسخرية بقيم الشرق ومبادئه، وفي ذات الوقت مشبعة باستلذاذ الحياة الغربية، يصبح الإصلاح فقط اقتباس الحياة الغربية في بعدها الثقافي الاجتماعي أكثر من أي بعد آخر يتطلبه تحديث الدولة وإعادة بنائها في شتى المجالات وخصوصاً الاقتصادية والسياسية. ومن ثم يتم التركيز على كل ما فيه خلاف بين فئات المجتمع، خصوصاً فيما تراه فئة من صلب ومتطلبات التقدم تجد فيه فئة أخرى خطر على الدين والمبادئ لمجتمع متدين.أما المشاركة الشعبية في الحكم والتدخل في إدارة الثروة الوطنية وصوغ الحياة الاجتماعية لا تعدو كونها سراب مادامت الأكثرية متشبثة بهويتها وأصالتها المخالفة لميول هؤلاء الإصلاحيين.

ويذكر بعض الباحثين ما يأتي عن إحدى حقب الإصلاح العثماني: «ولم تتوقف إجراءات محمود الثاني في الشئون الداخلية عند إحداث تغييرات في الشأن الداخلي، بل خطا خطوة استهدفت توجيه المجتمع نحو الغرب؛ إذ أجرى تغييرات في الزي الذي يرتديه موظفو الدولة، وأدخل في المجتمع المسلم العادات والتقاليد الأوروبية... ولم يتجهوا إلى إدخال الصناعات الثقيلة والمشروعات الإنتاجية التي تنهض بالدولة وتدفعها إلى الأمام».

بينما استنطاق التجربة الغربية يتحدث بوضوح بالتركيز على الرقي الاقتصادي وتسخير طاقات المجتمع كلها في هذا الاتجاه الذي لا يختلف على السعي نحو تحقيقه اثنين من مختلف الاتجاهات بدل إهدار الجهود في الملفات الخلافية التي وجدت فيما بعد لها طريقا سلكته وتم التوافق عليها مجتمعيا، كحقوق المرأة مثلا. طبيعي هذه ليست دعوة لإغفال بعض الملفات الحساسة، ولكنها دعوة لرفض ذرائع جمود عجلة الإصلاح، فإذا كان الخلاف حتمياً في بعض هذه الملفات فلا خلاف يذكر بشأن محور التقدم والرقي المتمثل في مجال التنمية الاقتصادية بكل أبعادها كالمشاركة في صنع القرار ورسم السياسات، ومن ثم ينبغي أن لا تكون الخلافات عن بعض الملفات عائقا وكأنها شرط لمواصلة المسير في المجالات الأخرى.

وحتى يتم تحاشي الآثار السلبية للخلاف بين مختلف فئات المجتمع، من المهم الانطلاق بثبات من خلال الاستناد لمرجعية تنسجم مع هوية البلد، والمزج بين القديم والحديث ينبغي أن ينصب على تحديث الدولة وسلك طريق التنمية وما تتطلبه من أبعاد شتى، وأما محاولة المزج بين القديم والحديث فيما يمس البعد الثقافي الديني، فقد يرضي متطلبات الإصلاح بعيون غربية ولكنه سيغضب الكثير من القوى الاجتماعية المؤثرة بالداخل التي ترى في ذلك التوجه تمييعا للانتماء وخطراً على الهوية، ومن ثم قد تقف القافلة في منتصف الطريق، فلا نكسب تقدما ولكن قد نفقد انتماء، فيكون الحال كما هي بعض الدول الشرقية، ومنها دولة عربية فرضت العلمانية بالقوة منذ ما يقارب الخمسة عقود رغما عن الإرادة الشعبية، غير أنها أصبحت كالغراب الذي حاول أن يقلد مشية الطاووس، فنسي مشيته ولم يتقن مشية الطاووس، وما زالت هذه الدولة بعد خمسة عقود من حكم (التقدميين) معدودة من الدول المتخلفة، وما تزال حقوق الإنسان فيها منتهكة على رغم انضمامها لكل العهود والمواثيق الدولية، ولم يبارح الجلادون أماكنهم، إذ التعذيب يمارس على نطاق واسع، ونزع الاعترافات بالإكراه من السجناء نار على علم، والانتخابات صورية، وتم تغيير كل شيء بما فيها الأحكام الأسرية بعيدا عن الشريعة، ولكن الذي جمد لا يتغير الحزب الحاكم وكهوله المحنطة الذين لم يفارقوا كراسيهم أو بالأحرى غنائمهم منذ عقود مرات، مع كل ذلك، هذه الدولة محل ترحيب الغرب

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1400 - الخميس 06 يوليو 2006م الموافق 09 جمادى الآخرة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً