العدد 147 - الخميس 30 يناير 2003م الموافق 27 ذي القعدة 1423هـ

العلامة الطباطبائي مؤسس حلقة قم الفلسفية

عبدالجبار الرفاعي comments [at] alwasatnews,.com

مفكر اسلامي عراقي

شهد العقد الثالث من القرن العشرين ولادة حلقتين للبحث الفلسفي الجماعي في أوروبا، ظهرت الأولى باعتبارها حلقة للمناقشة غير رسمية بجامعة (فينا)، وأطلقت على نفسها (جماعة فينا)، كان يتزعمها موريس شليك (1882 - 1936م) أستاذ كرسي الدراسات الاستقرائية في تلك الجامعة، ومن أعضائها البارزين رودلف كارناب (1891 - 1970م) وكلاهما تعلّم تعليما رياضيا في بداية الأمر، وكارل بوبر (1902 - 1991م). وكان يوحّد هذه الجماعة همّ مشترك، وهو السعي إلى تأسيس الفلسفة العلمية أو التنظير علميا للفلسفة، وقد أُطلِق العام (1931م) اسم (الوضعية المنطقية) على الأفكار الفلسفية الصادرة عنها. وبعد اشتهار الوضعية المنطقية عالميا انفرط عقد جماعة (فينا) في مطلق الثلاثينات.

وفي العام 1923م نشأت (مدرسة فرانكفورت) حول معهد البحث الاجتماعي الذي تأسس العام (1923م)، وكان مؤسسوها أربعة من الفلاسفة وعلماء الاجتماع، هم: ماركس هوركهايمر (1859 - 1973م)، وأدورنو (1903 - 1969م)، وماركوز (1898 - 1979م)، وهامبرماس (1929م)، وكانت هذه الجماعة تعمل باعتبارها فريقا مشتركا أيضا، حتى انفرط عقدها.

وقد كان لهاتين الجماعتين وخصوصا الأولى منهما دويا واسعا في الغرب، ترددت أصداؤه في ديارنا عبر المترجمات، وكان ملفتا إلى النظر أن تشترك جماعة في صوغ مذهب فلسفي، لأن المذاهب الفلسفية يبدعها فيلسوف ويتم بنائها أتباعه عادة.

وبعد ظهور هاتين الحلقتين في الغرب بثلاثة عقود تقريبا أسس العلامة محمد حسين الطباطبائي في قم حلقة فلسفية بعيدا عن الأضواء ووسائل الاعلام، بعد ضراوة هجوم الفلسفة المادية وشيوعها بين الشباب والنخبة المثقفة، فانتقى العلامة الطباطبائي ثلة من خيرة تلامذته لتشكيل حلقته الفلسفية، بدأت بكل من (مطهري، بهشتي، قدوسي، مفتح، منتظري، موسى الصدر، ابراهيم أميني، عبدالحميد شربياني، مرتضى جزائري، جعفر سبحاني، مهدي حائري)، والتأمت هذه الحلقة منذ سنة1951م بعقد ندوة علمية فلسفية ليلتين كل أسبوع، كان هدف الطباطبائي من تشكيل هذه الجماعة تأليف دورة فلسفية تشتمل على الانجازات القيمة للفلسفة الاسلامية عبر ألف عام، مضافا إلى الآراء والنظريات الفلسفية الحديثة، بحيث تستطيع ردم الهوة الواسعة التي تتبدى بين النظريات الفلسفية القديمة والحديثة، وتجسر العلاقة بينهما. كما تساهم هذه الدورة الفلسفية في تلبية المتطلبات الفكرية الراهنة، وتفصح عن قيمة الفلسفة الالهية التي تتجلى من خلالها عظمة الحكماءالمسلمين، والتي تشيع عنها الفلسفة المادية انها اندثرت وانتهت. مضافا إلى أن هذه الدورة تهتم بالتعرف على الفلسفة الأوروبية الحديثة، ونقض أسس الفلسفة المادية والمادية الديالكتيكية منها بالذات.

وكان الطباطبائي يقرر المسألة، في هذه الحلقة، ثم يجري حوار يتبادل فيه الحضور من تلامذته الآراء والاشكالات والاستفهامات بين يدي استاذهم، بعد ذلك تدوّن المسألة.

وقد دأب الطباطبائي كعادته، على بيان المطالب بنحو موجز مكثف ابتعد ما أمكنه عن الابهام وعدم الوضوح، كي تكون هذه المسائل في متناول أوسع شريحة من القراء، واقتصر على بيان امهات المسائل الفلسفية، وأعرض عن ذكر الادلة والبراهين الكثيرة لكل مسألة، واكتفى بما هو أسهل وأبسط البراهين لاثبات المدعى. وعهد إلى تلميذه مرتضى المطهري بكتابة هوامش توضيحية على الكتاب.

يضم الكتاب أربعة عشر مقالا، وقد صدر بعنوان (أصول الفلسفة والمذهب الواقعي) في خمسة أجزاء صغيرة، في فترات متباعدة بعد صدور الجزء الأول سنة (1952م).

ويعتبر صدور الجزء الأول من (أصول الفلسفة) في مطلع العقد السادس من القرن العشرين أعمق تحد فلسفي واجهته المادية الديالكتيكية، لذلك عكف المعنيون بالشأن الفلسفي من الماركسيين الايرانيين على مراجعة هذا الكتاب، فأدهشتهم البراهين الدامغة التي ساقها الطباطبائي في نقض الأسس الفلسفية للمادية الديالكتيكية، وبهرتهم الأمانة والدقة العلمية في بيان هذه الأسس، ومنذ ذلك الحين لم يجرؤ أحد منهم على منازلة الطباطبائي.

ويمكن القول ان انجاز الطباطبائي في (أصول الفلسفة) الذي ولد في فضاء حلقة قم الفلسفية يظل انجازا متميزا لم يرق إليه عمل مما سبقه، كذلك لم يتوافر أثر فلسفي مما تلاه على تمام الابعاد والخصائص الذي توافر عليها مجتمعة، لأنه حاكم الفلسفة المادية وتوغل في أعماقها ونقض مرتكزاتها، وليس لأنه أضحى مرجعا أفادت منه أعمال الاسلاميين اللاحقة في هذا المضمار، بل لأنها المرة الأولى التي صاغ فيها فيلسوف مسلم بعد صدر الدين الشيرازي نظاما فلسفيا متينا يستوعب امهات المسائل الفلسفية، بالتوكؤ على العناصر الحية التي أبدعتها الفلسفة الاسلامية عبر ألف عام، والافادة من العناصر الصحيحة في الفلسفة الأوروبية. غير أن هذا الأثر الخالد ظل منسيا مدة نصف قرن تقريبا منذ تأليفه إلى اليوم، ولم يسمع به سوى القلة خارج إيران والحوزات العلمية، بينما تكتسب بعض الآثار الثانوية التي ربما لا تنظوي على أي ابداع شهرة واسعة، بفعل ما تقوم به أجهزة الدعاية. وهذا هو قدر الأمة إذا تخلفت فإنها تصاب بتبلد رؤيتها وانشطار وعيها، فلا تقدر على تشخيص المبدعين من أبنائها، وتدع منجزاتها مهملة على رفوف المكتبات

إقرأ أيضا لـ "عبدالجبار الرفاعي"

العدد 147 - الخميس 30 يناير 2003م الموافق 27 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً