العدد 1477 - الخميس 21 سبتمبر 2006م الموافق 27 شعبان 1427هـ

هل زل لسان الحبر الأكبر أم كشف ما يجري في الخفاء؟

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

تعتبر الديانة المسيحية أكثر الديانات أتباعا في العالم، إذ يبلغ عدد أتباعها أكثر من 2,1 مليار مسيحي، ويعد المذهب الكاثوليكي الأكثر انتشارا بين المسيحيين، إذ تصل أعدادهم أكثر من 1,5 مليار كاثوليكي في العالم. ويرتبط الكاثوليك برباط روحي مقدس بالبابا الذي يعد ليس مجرد الأب الروحي، بل المرشد لتوجهات الأتباع على مختلف المستويات. ويتخذ البابا من الفاتيكان مقرا له، والتي تعتبر أصغر دولة مستقلة في العالم، إذ تبلغ مساحتها 0,44 كم مربع، وتقع في قلب روما، وكانت حتى العام 1929 جزءا من إيطاليا، حين تم الاتفاق على جعلها دولة مستقلة تدار من قبل البابا.

والبابوية هي أعلى سلطة في الكنيسة الكاثوليكية، وعندما يتخذ البابا موقفا أو يطلق تصريحا، فانه يعكس سياسة الفاتيكان كمركز زعامة دينية للكاثوليك، ولهذا يمكن الحكم باطمئنان على توجه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني الذي خدم الأسقفية لمدة 27 عاما (1978 - 2005)، والذي توج توجهاته الإيجابية صوب المسلمين والدين الإسلامي في زيارته للشرق، وخصوصاً لسورية. ومن أجل التعبير عن التفاهم بين الكاثوليك والمسلمين قام ولأول مرة في تاريخ البابوية بزيارة مسجد للمسلمين وهو الجامع الأموي في السادس من مايو/ أيار 2005، وزار ضريح النبي يحي بن زكريا (ع) الموجود في الجامع والذي يطلق عليه المسيحيون القديس «يوحنا المعمدان». ويقول المسيحيون إنه سمي بالمعمدان إشارة إلى أنه أول من قام بالتعميد، الذي يعني طقس الغسل بالماء للتطهير الديني، وهو أمر واجب في الديانة المسيحية، ويقولون أيضاً انه من عماد السيد المسيح (ع) عند ولادته.

غير أن ما جاء في خطاب البابا الجديد الألماني الجنسية بنديكت السادس عشر خلال محاضرة في جامعة ريغينسبورغ جنوب ألمانيا حديثاً وهو يتحدث عن العلاقة بين العقل والعنف، قد أثار التوجاسات بشأن السياسة الجديدة للفاتيكان تجاه المسلمين والدين الإسلامي، فقد استشهد البابا بكتاب للإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني (1350-1425) حين قال على لسان الإمبراطور: «ارني ما الجديد الذي جاء به محمد. لن تجد إلا أشياء شريرة وغير إنسانية مثل أمره بنشر الدين الذي كان يبشر به بحد السيف».

مشكلة البابا أنه وجه التهمة مباشرة للنبي محمد (ص)، الذي يعتبر أقدس مخلوق لدى المسلمين، مع أن النبي كانت غزواته دفاعية وفتح بلدة مكة التي كان في حرب معها والمناطق المحيطة بها كالطائف والتي ناله منها أذى كثير، عندما كانت دعوته لهم سلمية، حين قاموا بتعذيب وقتل أتباعه، حتى اضطروهم للتخفي بدينهم، وهاجر الآخرون من هذه الديار. والتهمة هذه للنيل من الرسول (ص) قديمة، وطالما كررتها الكتب الدراسية في مدراس التبشير. ولو تحدث البابا عن الفتوحات التي أتت بعد النبي الأكرم (ص) لما زعم أحد بخلوها من أخطاء، مع كل ذلك، فالمعروف أن الفاتحين المسلمين اقتلعوا عروش حكام أكثرهم حكموا شعوبهم بالحديد والنار، ولم تكن أنظمة ديمقراطية يحكم الشعب نفسه بنفسه آنذاك، وعندما فتحوا البلدان ذات الأديان السماوية، جعل الخيار بيد أهلها بين الدخول في الإسلام أو البقاء على ديانتهم ودفع الجزية كمشاركة في متطلبات الدولة، إذ إن الدولة تتسلم من المسلمين الزكاة ولا تأخذ مثل ذلك من أهل الكتاب.

وطالما ردد الغرب تهمة البابا لنبي الإسلام (ص) نكاية بالإسلام والمسلمين، مع أن تاريخ الحروب الصليبية التي قادتها البابوية لم يحصل لها مثيل من حيث همجية الأعمال التي قام بها الصليبيون، والتي بدأت عندما دعا البابا أوربان الثاني سنة 1095 إلى شنها تحت شعار تحرير قبر المسيح من «الكفار» المسلمين، ونفذ الصليبيون الكثير من المذابح خلال غزواتهم تلك، وقام القساوسة بشرعنة تلك الأفعال عن طريق رسم صورة للمسلمين تبرر قتلهم وتعذيبهم، باعتبارهم وثنيين وبرابرة.

لهذا يرى المسلمون أنه من المعيب أن يتحدث الحبر الأكبر عن نشر الإسلام بالسيف مع أن المسلمين لم يجبروا مسيحيا على الدخول في الإسلام، ويكرر المغالطات نفسها التي طالما نشروها في أوساط الأوروبيين ردحا طويلا من الزمن، وهو يعلم علم اليقين ما الذي قامت به محاكم التفتيش في الأندلس. فبعد أن قام السلطان أبوعبدالله الأحمر بتسليم غرناطة كآخر معاقل المسلمين في سنة 1492، تم إنشاء محاكم التفتيش الإسبانية التي قررت تحويل المساجد إلى كنائس، وفي سنة 1501 تم من خلال مرسوم إحراق جميع الكتب الإسلامية. وأصدرت هذه المحاكم سنة 1524 مرسوما يقضي بتحويل جميع المسلمين قسرا إلى النصرانية، وكذلك استرقاق أي مسلم مدى الحياة في حال رفض التنصر. وقد أصدر البابا أنوسنت قرارا أباح ممارسة التعذيب والإعدام الجماعي في حق من بقي من المسلمين. بعد كل هذه الدموية، هل يجد البابا الجديد مسوغا للحديث عن نشر الإسلام بالسيف؟

السؤال المهم هو: هل يسعى الفاتيكان من خلال البابا الجديد لهدم كل ما بناه سلفه في العلاقات الودية بين الأديان وخصوصا مع المسلمين؟

ينقل موقع هيئة الإذاعة البريطانية عن بعض المراقبين وجود اختلاف بين البابا السابق والحالي حيال الإسلام، ويستدلون بذلك على موقفه من الأسقف البريطاني المولد مايكل فيتزجيرالد، إذ نقله بعيدا إلى مصر ليكون المبعوث البابوي فيها، بعد أن كان مسئولا عن قسم بالفاتيكان لتعزيز الحوار مع الأديان الأخرى، وهو كما ينقل الموقع: «باحث متعمق في الشئون العربية، وخبير له باع في العالم الإسلامي».

وحين ينال الزعيم الأول لأكبر مذهب مسيحي من الرسول الأكرم (ص) متواكبا خطابه مع ذكرى الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، مع إبعاده لرئيس قسم تعزيز الحوار مع الأديان، فهل يمكن أن تكون هذه المواقف مؤشرات لتحول كبير من أجل أهداف تم التوافق عليها مع الكبار أيضاً؟

البعض يرى أن التواجه الغربي نحو الشرق، قديما وحديثا، نابع من قناعة بلورها قدامى مفكري الغرب وفلاسفتهم، حين قال الأديب الانجليزي كبلينغ مقولته التي عبر عنها بعض الكتاب بالمقولة الذهبية: «الشرق شرق والغرب غرب.. ولن يلتقيا»، وعبرت عن هذه العلاقة سابقا تلك الحروب الدموية التي أطلق عليها الحروب الصليبية، وفي العصر الراهن، فإن بعض الطروحات الغربية والنظرية كنظرية صراع الحضارات للأميركي صامويل هنتنغتون تعكس مسعى غربيا لتكريس الفجوة مع الشرق من خلال مفكريه المعاصرين.

إن تصريح البابا نكأ جراح الماضي المؤلمة في العلاقة بين الشرق والغرب، وفتح باب التخمينات على مصراعيه، إلا أنه من السابق لأوانه الإدعاء بأن البابا جزء من الحرب الأميركية التي أطلق عليها الرئيس الأميركي يوما ما بـ «الصليبية»، فبينما أصر عدد من القساوسة، خصوصا من الكنائس الإنجيلية في أميركا والمقربون من ساسة البيت الأبيض على تصريحاتهم المسيئة للإسلام ونبيه الكريم (ص) أعقاب هجمات 11 سبتمبر، ورفضوا التراجع أو الاعتذار عنها، فإن البابا أعلن تراجعه عن تصريحاته. وربما ما قاله البابا هو حقا زلة لسان، ولكنها أظهرت ما يتم طبخه وتداوله سرا في سياق الحرب الجديدة، فما يجيش في الفؤاد نتيجة كثرة المداولات، يهفو به اللسان، لهذا سيبقى السؤال قائما: هل تختار البابوية التواجه الأميركي في حربها الجديدة التي تم تدشينها بعد الحادي عشر من سبتمبر؟

تراجع البابا مؤشر على خلاف هذه التخمينات، ولإدراك الفاتيكان تعقيدات هذه الحرب التي تستهدف تغييرا فكريا يشمل الشرق الإسلامي كله، ولا يقتصر على النخب كما في السابق. ومن دلائل هذه الحرب - كما يرى بعض المفكرين - الضغط الأميركي لتغيير مناهج التعليم الديني كجزء من حرب تغيير الداخل للإنسان الشرقي

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1477 - الخميس 21 سبتمبر 2006م الموافق 27 شعبان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً