العدد 1482 - الثلثاء 26 سبتمبر 2006م الموافق 03 رمضان 1427هـ

هدى سالم... أسطورة الزمن الحاضر

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

ترجل النعش الذي احتواها، منتصباً، مرفوعاً على أكتاف الرفاق، راحلاً مثقلاً بهموم الوطن والإنسان، والكلمات، تبقى كلمات قصيرة القامة وشحيحة في كل أبعادها الممتدة، الكلمات مهما عظمت فهي ليست بمقاس«الرفيقة ليلى فخرو». (... لم ينصفها رفاقها، لم تسجل مواقفها البطولية والإنسانية العالية. كانت تحلم بالكتابة عن تلك الفترة لكنها ترددت عن الكتابة عن نفسها، فقد كان الحديث عن ذاتها عدوها الأول: «لم نفعل شيئاً أمام بطولات الرفاق»، كانت تردد ذلك باستمرار. معبرة عن تواضع جم... يطوي الكثير من الدروس والعبر للآخرين)!

هكذا عبر عنها رفيق الدرب «أبوأمل»، وتحدث عن صمتها المطبق محمد الفاضل، وتباعاً البقية من إبراهيم بشمي وعبد النبي العكري وإبراهيم شريف ومنعم الشيرواي وسبيكة النجار وشوقي العلوي وغيرهم. جميعهم حدثونا عن «المعلمة الثورية المناضلة الملتزمة»، تلك التي تخلت عن حياة الدعة ومضى عليها زمن تخفت فيه بأوشحة استدعتها سياقات العمل السري. أما أهل «ليلى» فقد وجدوا فيها قلباً حنوناً وفياً ومخزناً معرفياً، وشمعةً مضيئةً في بيتهم يفخرون بها وبتجربتها!

لم يعد ثمة شك في القول إن الكلمات قصيرة وشحيحة ليست بمقاس «هدى سالم»، فهي التي سكنت المخيال، وهي مضمون المعاني التي تجاوزت مفاهيم الحرية والوعي والمعرفة وإنكار الذات وتقديم التضحيات عبر السلوك النضالي والإرادة الحديدية القاهرة للاستلاب والخنوع والخضوع والامتثال والابتذال.

إلى وقت بعيد من أزمنتنا، لم نسمع بها إلا لماماً وهمساً، فهي المغتربة البعيدة الممنوعة من استنشاق هواء الوطن، لم نكن ندرك بعد أبعادها وزوايا مخزونها، لم نع وقتها معاناتها، لم ندرك تماماً صلابتها وتمردها وانسلاخها وعطاءها وحرية إرادتها وتحديها وتجاوزها للزمن والمكان الذي نشأت فيه. خاضت بإصرار غمار تجربة نوعية في ساحة النضال الذي قدمت فيه التضحيات أسوة بالرجال، وأفصحت من خلاله عن قدرة المرأة البحرينية وإقدامها وشجاعتها ووعيها وشراكتها للرجال في تحمل وزر العمل الوطني، فضلاً عن جرأتها في اتخاذ قراراتها المصيرية بإرادة وصلابة وحرية. هل كنا ندرك حجم ذلك الدرس في تلك الأزمنة؟ بالطبع لا! لم نع أو نعرف الكثير عنها، كنا وما زلنا من أسف نجهلها. كان الهمس يدور هنا وهناك، من حين إلى حين باسمها الحركي في صفوف خلايا التنظيم، حينها كانت شرارة وحلم ورغبة مشتعلة ملحة في التحدي والتقصي والبحث عن مكامن وخبايا الأسطورة. هكذا كانت كبيرة وأسطورة في عالمنا، وسراً تجاوز حدود أحلامنا وقتما كنا يافعين نتخطى دروب الوطن الشائكة ومزاريبه المتعددة، ونتلمس الشعارات الوطنية التحررية المناهضة للظلم والقهر والاستبداد والتخلف، تلك الشعارات التي جسدتها فعلاً وعملاً في تجربتها النضالية.

للرفاق والرفيقات الذين تواصلوا وعاشوا معها كامل مساحتهم الزمنية على الورق لكي يملًها بتفاصيل حكاياتهم معها، لاسيما وأنها في مجملها روايات نضالية للوطن تستوجب التدوين، أما بالنسبة لي، فلي معها ثلاث محطات لطالما استوقفتني للتأمل في مكونات هذه الشخصية الإنسانية القوية في معاناتها. المحطة الأولي عند لقائي معها صدفة بعد عودة المنفيين إلى الوطن في أحد المنتديات، إذ لفت انتباهي نظراتها الحادة وقوة شخصيتها وهيبتها الطاغية بهدوء، وشدة تركيزها وانشدادها لما كانت تستمع إليه وتشاهده من حماس وعنفوان كان قد بدأ يدب في أوساط الناشطين والناشطات. كانت وقورة في حضورها وصمتها، ما زاد من حدة فضولي المتخفي لمراقبتها عن بعد وسبر بواطن شخصيتها التي تشي عن عناد وكبرياء متأصل وثقة بالنفس، تتغلغل بها إلى دواخل من يجالسها، كنت على يقين أنني قبالة امرأة أسطورة، إنسانة استثنائية، ليست ككل النساء!

التقيتها ثانية واستمعت إلى مداخلة لها في أول لقاء تم بين الجمعيات النسائية وبعض الناشطات مع سيدة البحرين الأولى بعيد تأسيس المجلس الأعلى للمرأة، كانت بسيطة في هندامها ومتأنية وبدت كلماتها دقيقة ومنتقاة وعباراتها عقلانية لا حماس بها ولا تأتأة ولا زيادة أو اجترار، فقد قدرت متغيرات الواقع السياسي وعناصره والموقف منه بفصاحة فكرية متنورة وبتركيز شديد في الإشارة إلى نضالات المرأة البحرينية وإسهاماتها في الشأن العام. ذهبت بعيداً وأنا أعقد المقاربات ما بين مضمون حديثها، وما كان يردنا من خطابها الثوري في ذاك الزمن عبر الأدبيات أو أحاديث من عاصروها. لقد تمثلت فكر تحرر المرأة معرفةً وسلوكاً لتكون بذلك النموذج المتخيل من قبل رفيقاتها في صفوف التنظيم السياسي، وانعكس ذلك في السلوك والمظهر والتعبير، فكانت بذلك «هدى سالم» الأسطورة النضالية في الواقع.

حقاً... وجودنا كنساء في ذلك المجلس لم يكن وليد صدفة ولا قدراً قسرياً ومحتوماً، بقدر ما جاء افرازاً لتراكم نضالي وفكري تأصل عبر التجارب التي خاضتها في غمار العمل السياسي والنسائي مع الرفاق والرفيقات، ما جعل خطابها ناضجا ووليد عصره وتغلغل لعقول الحاضرات على اختلاف أفكارهن وطبقاتهن الاجتماعية. إذن ها هي «هدى سالم»، لا تشذ عن لغة العصر ولا عن قضية تمكين النساء سياسياً وتوعيتهن، فهي الحاضرة بيننا وفي زمننا بعد تلك السنوات التي مضت منذ انخراطها في دهاليز العمل السري السياسي.

نعم، لم ينصفها الرفاق ولا الرفيقات إلى الآن، ذلك لأنهم لم يكتبوا بعد ما يجب كتابته، ولهذا ثمة ما كنا ومازلنا نجهله عن الأسطورة النضالية «ليلى فخرو»!

مرة ثالثة، شرفتني بزيارة في منزلي العام 2002، تحدثنا طويلاً في ذلك اللقاء وتطرقنا إلى موضوعات متشعبة عن العمل النسائي وعلاقته بالنشاط السياسي. كانت تستطلع مني حقيقة وجهة نظري عن اختلاط المفاهيم والملابسات آنذاك بشأن علاقة الجمعيات النسائية وما أشيع من تدخل الجمعيات السياسية في أنشطتها، إذ كان الجدل وقتها محتدماً بشأن تداخل أجندة الجمعيات السياسية بأجندة الجمعيات النسائية ما يفقدها استقلالية قراراها ويضعفها، فضلاً عن أن بعض الجمعيات النسائية ذاتها التي ارتضت لنفسها أن تكون واجهة للجمعيات السياسية تأتمر بأمرها وقرارها، إضافة إلى ذلك دار الحديث عن داء الشخصنة الذي بدأ ينتشر في أوساط النشاط النسائي، بسبب تدني الوعي عند بعض الناشطات النسائيات اللواتي مازال يرزح بعضهن تحت وطأة الخوف والريبة من خوض غمار تجربة العمل السياسي العلني في الجمعيات السياسية على رغم حصول المرأة البحرينية على كامل حقوقها السياسية وقانونية الجمعيات السياسية.

تشعب الحديث وتمدد، لكنه ابتعد عن اهتمامات النساء الأخرى المتعلقة بشئون الأسرة والتربية أو المطبخ أو جمال المرأة... الخ، كان حديثها وقلقها منصباً عن وضع المرأة وتحررها واستقلاليتها وقوة شخصيتها وهي تنشط في المؤسسة السياسية أو النسائية، وكيف ستعزز مشاركتها في الشأن العام وترفع من مستوى الوعي السياسي والاجتماعي في أوساط النساء، كيف من الممكن تجاوز أخطاء الماضي والشطط ورسم ذهنية متنورة ومستقلة تعى دورها في المجتمع، وبلورة حركة نسائية تخدم البحرينيات وتتبنى همومهن. كنت مبهورة بها وأحسست بشيء من الاعتزاز والامتنان لزيارتها، إذ شعرت لحظتها بأنني أغوص في جوف صفحات من تاريخ وطني وأقرأه عن قرب وألمسه بيدي. تكررت الزيارة ثانية مع رفيق عمرها عبيدلي العبيدلي وتبادلنا الحديث عن مشروعها «بوابة المرأة البحرينية» الذي حققته على أرض الواقع، وغابت ثانية لتغوص وتبدع في عالمها المهني الذي أنجزته باقتدار وبشهادة من تعامل معها على رغم أثقال الزمن وغدر الألم والمرض الذي أنهكها!

حينما وصلني خبر وفاتها، قلت: على الرفاق والرفيقات أن ينهضوا بجثمانها في جنازة مهيبة تليق «بمناضلة أسطورية» من وطني، إذ لا يجوز الاستغراق في الحزن عليها بقدر ما نستنهض الهمم للكتابة عن المجهول والناصع في تجربتها النضالية الاستثنائية، ذاك ما قد ينصفها وينصف تاريخ وطننا الغالي

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 1482 - الثلثاء 26 سبتمبر 2006م الموافق 03 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً