العدد 1484 - الخميس 28 سبتمبر 2006م الموافق 05 رمضان 1427هـ

جيش الإنكشارية والنظم الشمولية المستبدة

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

في النظم الشمولية عادة، يعتبر الجهاز السياسي الحاكم - أي جهاز كان - هو سبب انعدام الثقة في شعبه وجلب النقمة عليه من خلال ممارساته التعسفية، وتعريض حقوق الناس للانتهاك ونشر الفقر والعوز بينهم ربما بشكل مقصود ومتعمد. وقد يكون الدافع لممارسات هذا الجهاز من تعمد إفقار وتجويع لشعبه واشغالهم بمختلف مشكلات الحياة ومتطلباتها هدفاً آخر، إذ يرى بعض الفلاسفة أن رفع مستوى الرفاه الاقتصادي يقود إلى تحرر الإنسان من حاجاته الرئيسية من مسكن ومأكل، وبالتالي يسعى إلى مستوى أرقى معنوياً من الحاجات كالتعليم والسفر، وحرية التعبير والمشاركة في صناعة القرار.ومن أجل أن يبقي الجهاز السياسي الحاكم على تحكمه في السلطة والثروة، يستخدم الفقر كسلاح، لذلك قيل إن الفقر سلاح الطغاة، ومما ينسب إلى أرسطو، أن الحاكم الذي يسعى إلى إبقاء الاستبداد بيده، يعمل على إشاعة أمور ثلاثة في شعبه: إفقاره، تجهيله، وإفساده أخلاقياً.

غير أن الظروف أحياناً تكون أقوى من هذه الأساليب، والشعب فوق هذا المستوى وهذه الخطط، ومن ثم يتحرك الجهاز السياسي للبحث عن مختلف السبل التي تجلب له الطمأنينة حتى يغمض جفنه قرير العين وهو وسط من يتوهم أنهم يتربصون به الدوائر، فقد يحيط نفسه بسياج غريب يختلف عن نسيج المجتمع، فيستعين بقوة غريبة يمكن أن ترتكب أية حماقة وتنفذ أي عمل يناط بها مهما كان سيئاً، إذ لا تردعها وشائج نسب ولا صلة وعلاقات مع الناس. ويسعى الجهاز السياسي المستبد إلى كسب ولاء هذه الفئة الجديدة من خلال ما يغدق عليها من منافع مادية. ومن أجل ضمان ديمومة هذا الولاء، فقد يحاول الجهاز أن يسبغ على ولاء هذه الفئات له صبغة دينية.

في زمن الدولة السلجوقية، كان هناك رجل قبلي اسمه طغرل في منطقة قرب أنقرة، قد أقطعه السلطان السلجوقي مناطق خصبة جزاء مساعدته السلطان في حروبه، ولما زالت الدولة السلجوقية سنة 1304، وتجزأت إلى دويلات وإمارات، كان من بين هذه الإمارات إمارة هذا الرجل الذي خلفه ابنه عثمان، الذي دخل في الدين الإسلامي وكان بمثابة مؤسس دولة الخلافة العثمانية المنسوبة إليه.

غير أن العلاقات القائمة بين هذه الإمارة وحلفائها المنضوين تحتها من القبائل التي تشكل جيوشاً لها، غير مستقرة، وينتابها عدم الثقة. ذلك القلق دفع أورخان الابن الثاني لعثمان وخليفته (1326 - 1360) إلى تشكيل جيش الإنكشارية، وهو جيش ليس بتركي، شكّله السلطان من خلال الأسارى صغار السن الذين يتم أسرهم أثناء فتح البلدان عنوة، وضم إليهم أولاد النصارى المشردين والأيتام الصغار الذين توفي آباؤهم أثناء حروب الفتح واللقطاء. والاسم الأصلي لهذا الجيش هو «يني تشري» أي الجيش الجديد، وحرف بالعربية فصار إنكشاري، ويذكر بعض المؤرخين أن هذا الجيش هو أول جيش دائم ومنظم عرفه التاريخ.

وبغض النظر عن ما يطرحه بعض الكتاب حيال الخلافة العثمانية، فإن لهذا الجيش بهذه التشكيلة أهدافاً تتعلق بالداخل التركي. وقد أضفى السلطان على أفراد الإنكشارية الكثير من الامتيازات، منها منحهم حصانة تحول دون القبض عليهم أو فرض العقوبات من قبل السلطات المدنية.

ولاحتمال ذوبانهم في المجتمع التركي وتكوين علاقات ونسب من خلال التزاوج والاحتكاك الدائم بالمجتمع، ما يشكل عوامل تؤثر على درجة طاعتهم وولائهم للسلطة، تم عزلهم في ثكنات خاصة بهم بعيدا عن السكان، لا يختلطون بالمجتمع، وفي الوقت نفسه تم حرمانهم من الزواج حتى يتم نزع تعلقهم بالأسرة والأولاد والأقرباء.

بعد فترة ليست بالطويلة، وبدل أن يكونوا صمام أمان، بدأوا بإثارة المشكلات من داخل السلطنة، فصاروا يتدخلون في السياسة العليا للدولة، ويرى بعض المؤرخين أن تدخلاتهم كانت مبكرة جدا ومن ثم فرضوا ما يشاءون. وأثارت تمرداتهم وكثرة مطالبهم مخاوف خلفاء بني عثمان، ما حدا بالسلطة لاشغالهم في حروب خارجية ردحاً طويلاً من الزمن، خصوصاً مع كثرة الفتوحات العثمانية سواء تجاه أوروبا أو ضم الدول الإسلامية القائمة تحت سلطتها. وبعد أن نخر الضعف والهزال في جسد الخلافة العثمانية، وضعفت قدرتها على شن الحروب الخارجية، وبدل أن يساندها الإنكشاريون، كثر تمردهم وطغيانهم، ما قاد السلطة للتخلص منهم بعد مخطط رهيب عكفت سراً على التخطيط له كما يرى بعض المؤرخين.

وهكذا، فإن كل الإجراءات لجعلهم آلة طيعة بيد السلطة لم تجدي، فمع أن هؤلاء تم تربيتهم منذ نعومة أظفارهم على الولاء الديني وتم عزلهم عن الحياة حتى لا يتطلعوا لبهارجها وزينتها ولا تطمح أعينهم في المناصب والثروة، إلا أن هؤلاء الصغار كبروا، فكبرت مطالبهم وكثرت حاجاتهم وتخطت مجرد الشرب والأكل والمأوى، والتحقت مطالبهم بمطالب الأمة بل تعدت الحد الطبيعي، وكيف لو كان هؤلاء مجرد مستقدمين من الخارج وهم كبار ناضجون؟ والمثل الشعبي يقول «القط الكبير ما يتربى»، كيف يمكن بناء ثقة متبادلة بين الدولة وبين من يكون المال، والمال وحده، مصدر إغرائه؟

وإذا كان هذا حال من تم عزلهم منذ الصغر، لا يعرفون لهم أبا إلا السلطان الذي رباهم وأنعم عليهم، ولا صلة لهم ولا قرابة بأية فئة أو مجتمع أو قبيلة، فماذا عن بعض من قدم بجسده فقط وقلبه معلق بقبيلته وأهله ومحل رجله ومسقط رأسه ومهوى فؤاده ومرتع طفولته وأحلامه؟ ألم يكن الأجدر بالسلطة العثمانية أن تسعى إلى إنصاف رعاياها فتكسب رضاهم وولاءهم، وتنام مطمئنة تحت حراستهم ومحبتهم بدل الارتهان لولاء نسيج غريب على المجتمع التركي فترة طويلة جداً؟ ولكنها سوفت لمدة طويلة ففقدت ثقة أبنائها فيها

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1484 - الخميس 28 سبتمبر 2006م الموافق 05 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً