العدد 1489 - الثلثاء 03 أكتوبر 2006م الموافق 10 رمضان 1427هـ

حين نستدعي الاستعمار لحماية الاستقلال!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

فاجأنا، بل فجعنا الرئيس العراقي جلال الطالباني الغربية بدعوته والعجيبة لبقاء قوات الاحتلال الأميركي في العراق، وإقامتها إقامة دائمة بحجة حماية استقلال العراق الجديد، من خطر غزو دول الجوار، التي حددها بإيران وتركيا وسورية، واستثنى السعودية والأردن والكويت.

وبقدر مجافاة هذه الدعوة لمبادئ استقلال الدول ولمعاني الحرية والسيادة الوطنية، بقدر اتساقها التام مع المشروع الأميركي (الشرق الأوسط الجديد)، القائم على إعادة رسم الحدود والنفوذ وتقسيم الدول وإقامة القواعد العسكرية، وتثبيت الوجود الأميركي الدائم في المنطقة العربية، حفاظاً على المصالح الاستراتيجية للقوة العظمى الوحيدة، وفي مقدمتها مخزون النفط العراقي والخليجي، وحصاراً لما تسميه واشنطن النفوذ الإسلامي الراديكالي المنطلق من إيران ودعماً طبعاً من «إسرائيل»!

وأطلق الرئيس العراقي الطلقة الحية الأولى في مشروع التوسع الاستعماري الأميركي تثبيتاً لأسسه على أرض الواقع، وتأكيداً لما سبق أن أعلنته واشنطن من نيتها المؤكدة، في إقامة قواعد دائمه لها في العراق من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن المكنة الدبلوماسية الأميركية انطلقت في حشد الأصدقاء وتجنيد الحلفاء، لدعم هذا المشروع الاستعماري الجديد، بالضغط والإكراه أو بالجذب والإغواء.

ولذلك، فإن جولة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس الحالية في المنطقة واجتماعها الغريب أمس بوزراء خارجية مصر والأردن وسداسي مجلس التعاون الخليجي، لابد أن يندرج في إطار الجهد الأميركي لتمهيد الطريق أمام هذه المشروع «الشرق الأوسط الجديد» ووضع أسس تنفيذه حتى ان قيل لنا ان الهدف هو تهيئة مناخ السلام في المنطقة، إذ كيف يناقش الاجتماع «عملية السلام» وأطراف العملية الرئيسيون غائبون عنه، سواء فلسطين أو لبنان أو سورية أو العراق أو السودان صاحب قضية دارفور الملتهبة، فضلاً طبعاً عن غياب أصحاب الملف النووي الإيراني، الذي بات يحتل أولوية وخصوصاً في كل تحرك أميركي على المستوى الدولي أو على المستوى الإقليمي العربي.

وإذا كان من حقنا أن نتشكك حتى النخاع في الأهداف الخفية للأجندة الأميركية بمشروعها الشرق الأوسط الجديد، فإن من واجب الدول العربية الثماني المختارة هذه أن تتشكك أكثر منا، لأنها مسئولة عن حماية أمنها الوطني وأمن العرب القومي، فضلاً عن أنها نظم ورثت دولاً مستقلة أو حتى شبه مستقلة ضحت من أجلها شعوبنا ودفعت الثمن الباهظ ولحمها قبل عقود، حين تخلصت من بقايا الاستعمار القديم، لكن ها هو الاستعمار الجديد الأميركي يفرض سياساته ويقيم قواعده ويرسل جنوده وأساطيله فماذا بقي من معنى الاستقلال.

للأسف لقد حالفت بعض نظمنا الحاكمة مع الاستعمار الأميركي الجديد، لذرائع وأسباب مختلفة في إضاعة الاستقلال وفي تلويث سمعة السيادة والكرامة الوطنية. والهوية والانتماء القومي وسط ضجيج العولمة وفحيح الاندماج في الحضارة الغربية الحديثة بكل ملوثاتها الاستعمارية والتخلي عن أهم ثوابت العمل الوطني وخصوصاً صيانة الاستقلال الذي ثارت من أجله شعوبنا وانتفض زعماؤنا الوطنيون واستشهد شهداؤنا الأبرار.

فإذا نحن اليوم نستدعي الاستعمار لحماية الاستقلال في ظل سيادة دعوات تقول للأجيال الجديدة ان الاستعمار استثمار وان الخيانة وجهة نظر وان «إسرائيل» صديق المستقبل المؤتمن، وان نوم الخراف مع الذئاب في حظيرة واحدة حماية لها، ولنا!

وإلا فما معنى ما يجري الآن على الساحة بتسارع عجيب!

إذا بدأنا بما يجري في الساحة العراقية فإنها الأكثر فجاجة وما يجري فيها هو الأكثر دموية وقبحاً، بعد أن حولها الاحتلال الأميركي إلى مقتلة يومية، وزرع فيها ورعى قواعد التقسيم الطائفي في ظل حرب أهلية، وشجع بقصد أو بغير قصد تزايد النشاط الراديكالي والإرهابي وجعل من رئيس العراق الداعي الأول لإقامة الاستعمار في بلاده إقامة دائمة بحجة حماية استقلاله!

وها هي فلسطين تغرق في دوامة صراع دائم، لم يعد كما كان بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي فقط، لكنه أصبح بالتوازي صراعاً بين أجنحة فلسطينية تتقاتل على السلطة وتختلف حتى على معنى الاستقلال الوطني، وبالتالي فإن السعي الأميركي، المسنود عربياً، لم يعد هدفه التوصل إلى سلام وتسوية للصراع العربي الإسرائيلي وفق أسس راسخة، لكن هدفه تغليب «فتح» على «حماس» حتى لو سال الدم أنهاراً، تتحكم في تدفقه الإرادة الأميركية التي هي إسرائيلية.

وفي الوقت الذي يشغل فيه التدخل الأميركي الساحة اللبنانية بلهيب الصراع السياسي الطائفي ويدفع أطرافاً لبنانية طالما تغنت بميراث الحرية والاستقلال الوطني، إلى الاستنجاد بالاستعمار الجديد حماية وحصانة. فإن دولاً عربية أخرى كثيرة وكبيرة، دخلت بيت الطاعة الأميركي طواعية أو خوفاً، فاحتمت بمعاهدات دفاع ومظلات حماية غربية «استعمارية»، فضلاً عن استجداء الدعم والمساعدة الأميركية ذات الشروط القاسية، التي تخل مباشرة بكل معاني الاستقلال الوطني وتكشف للعدو قبل الصديق ظهر الأمن القومي.

ثم ها هي دول عربية أخرى، تتمنى وتسعى جاهدة إلى الالتحاق أو الانتساب لحلف الأطلنطي الذي تقوده بقوة القبضة الأميركية الحديد فإذا بالحلف الاستعماري يعيد مد خطوطه الأمنية والعسكرية، نحو الجنوب، فاردا ذراعه اليسرى نحونا، بعد أن نجح في فرد ذراعه اليمنى على أوروبا الشرقية، وارثاً حلف وارسو بعد سقوط الاتحاد السوفياتي المدوي والمزري.

وبقدر نجاح الاستعمار الجديد في مد الأذرع الأخطبوطية لحلف الأطلنطي «الناتو» آلته العسكرية، من شواطئ المحيط الأطلنطي غرباً، إلى حدود الهند والصين شرقاً، وخصوصاً بوجود أساطيله وقواعده وجنوده من المغرب العربي، حتى أفغانستان فإنه يتلمظ الآن لالتهام السودان جنوباً، عبر استغلال الموقف المتدهور في دارفور، بإرسال قوات حتى باسم الأمم المتحدة لتقيم هناك نقطة ارتكاز جديدة، تضاف إلى نقاطه العدة في بلاد العرب، وتحمي أذرعه الأخطبوطية الممتدة، تخرق عين أسطورة الاستقلال الوطني وتكسر ضلوع كل من يتحدث عن السيادة ومقاومة الاحتلال الأجنبي.

وإذا كانت هذه هي نتاج سياسة «الفوضى الخلاقة» التي ابتدعها فلاسفة الاستعمار الأميركي الجديد، فإن الخطر الحقيقي على الاستقلال والسيادة الوطنية لم يعد هاجماً من الغرب فقط، لكنه أصبح للأسف نابعاً أيضاً من دواخلنا ومن بين أضلعنا، يصرخ في وجوهنا ببجاحة فجة، قائلاً: «إن الاستعمار الأجنبي الحديث تجديد وتحديث لبلادنا»، كما فعلت الحملة الاستعمارية الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت في بدايات القرن التاسع عشر!

وانظر وتأمل فيما يدعيه المتأمركون العرب، وبقايا تحالف كوبنهاغن والتطبيعيون ومن يسمون أنفسهم بالليبراليين الجدد، من أن «التدخل الأميركي في العراق قد حرره من الاستبداد وأشعله بالديمقراطية» وان حصار الغرب لسورية و«حماس» وحزب الله، يهدف إلى القضاء على الإرهاب وان إجهاض المشروع النووي الإيراني تخليص للعرب من الخطر التوسعي الإيراني وان السعي إلى احتلال دارفور انقاذ للملايين من المذابح الجماعية والتطهير العرقي... إلخ!

وخطورة هؤلاء تكمن في أن دعواتهم ذات بريق جذاب عند العامة فمن يقبل بالاستبداد والظلم والتفرقة والإرهاب والتطرف والقتل الجماعي، لكن ذلك كله يخفي وراء بريقه اللامع، سماً قاتلاً... والسم يترسب عادة في قاع الكأس، وعليك أن تشرب ما فيه حتى الثمالة فإذا بدعوتهم الفجة لاستدعاء الاستعمار والاستنجاد به، تتلون بأقنعة زاهية، مثل الاستفادة بالمعونات والخبرات الحديثة لتطوير مجتمعاتنا المختلفة، والاستنجاد بالضغوط الأجنبية للقضاء على استبداد النظم الحاكمة، وزرع بذور الإصلاح الديمقراطي بقيمه المستوردة، وتجميل كل ما هو أميركي وتزويق كل ما هو صهيوني وترويج كل ما هو تطبيعي. فإن تجرأت وقلت إن هذا كله يصب في خانة تحسين وجه الاستعمار الجديد الهاجم قالوا عنك إنك متخلف ومستبد وشمولي وربما شيوعي أو شيعي، تعادي الحداثة وتخاصم الديمقراطية!

غير أن كل ذلك لا يجب أن يلهينا عن محور القضية الرئيسية ونعني حماية استقلالنا المهدد وصيانة أمننا القومي المستباح لصالح المستعمر الجديد، الغازي باسم الصداقة والتحالف والتعاون... وحين نحمي استقلالنا ونصون أمننا القومي، نستطيع أن نبني التقدم الفعلي ونقيم الديمقراطية الحقيقية بأيدينا لا بأيدي المستعمر الأميركي.

وهكذا، فإن الترويج الراهن للفلسفة الجديدة، الداعية لاستجداء عودة الاستعمار ولإعادة صوغ الشرق الأوسط الجديد وللقضاء على معاني الاستقلال الوطني والمقاومة المشروعة، ولتشجيع التأمرك والتأسرل والتصهين، تحت كل المسميات المزوقة والشعارات المزيفة، إنما يسرق منا حتى دماء الشهداء الذين ضحوا ويضحون دفاعاً عن سيادة وفي الوقت نفسه يطرح علينا أقسى التحديات وأعظمها وهو تحدي الاستقلال وحق السيادة الوطنية والقومية.

هذا إن كان فيكم رجل رشيد

خير الكلام: يقول سلطان العاشقين المتصوف عمر بن الفارض

كل من في حماك يهواك، لكن

أنا وحدي بكل من في حماكا

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1489 - الثلثاء 03 أكتوبر 2006م الموافق 10 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً