العدد 1505 - الخميس 19 أكتوبر 2006م الموافق 26 رمضان 1427هـ

التوافق الذي أحدث المعجزة

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

كان ذلك في القرن الثامن عشر، وتحديداً في العام 1853، استيقظت اليابان على وقع زحف قطع حديد هائلة الضخامة، لها أشكال مخيفة ومهيبة تشق عباب البحر. كان الخبر كالصاعقة على مفكري اليابان ونخبها، فقد اقتحم الأسطول الأميركي خليج «اوراجا» الياباني، وبدأ يفاوض الحاكم العسكري الياباني بشأن معاهدات من نوع معيّن. حينها تأمل هؤلاء المفكرون والنخب المثقفة هذا الخطب الجلل، فرأوا أن البلد على أبواب غزو هدفه الاستغلال الاقتصادي، وانه سيجر البلد إلى مستنقع الاستعمار والدمار وستكون البلد وثرواته عرضة للنهب.

في هذا العام كانت أوروبا وأميركا في مرحلة الرأسمالية الصناعية التي بدأت منذ نهاية القرن الثامن عشر (1750 تقريبا حتى 1870)، وفي هذه المرحلة، اندفع الغربيون للبحث عن أسواق لفائض إنتاج مصانعهم والبحث عن مواد خام زهيدة الثمن لمزيد من الإنتاج. وصاحب هذه المرحلة ظلم شديد للشرق على أيدي الاستعمار الغربي، ومصادرة لإمكاناته وإهدار لثرواته الذي استمر طويلا. أما اليابان فكانت في العام 1853 حين دخل الأسطول الأميركي مياهها، غارقة في علاقات إقطاعية من أذنيها لأخمص قدميها... حينها رأى المفكرون اليابانيون أن السبيل الوحيد لإنقاذ اليابان من الخطر القادم يتمثل في انتشالها من براثن الإقطاع والعمل على تحويلها لمرحلة الرأسمالية الصناعية، وجعلها بلدا صناعياً.

اقتنع الإقطاعيون بما طرحه المفكرون، فقاموا بإقصاء الحاكم العسكري، وأرجعوا الإمبراطور المعزول إلى السلطة من أجل كسب عامة الناس في العام 1868، وبدأ عصر التآزر بين مختلف قطاعات المجتمع، فحتى هؤلاء الإقطاعيون بذلوا جهودهم وقدموا خدماتهم للارتقاء باليابان إلى مصاف الدول الصناعية الكبرى.

وعندما حدث التوافق بين الحكم والناس عبر جهود النخب من مفكرين وعلماء ومثقفين، لم تمض فترة طويلة حتى بدأ عصر الإقطاع يترنح بهدوء وتدرج، على أيدي الطبقة التي أنتجها التوجّه الجديد من التجار والصناعيين، والتي نمت وحازت نفوذا قويا من خلال المال مكنها من تبوء مقام مؤثر في الحياة الجديدة. وتحققت المعجزة وقادت الى تحقيق التنمية والارتقاء بالبلد من دون الحاجة إلى دماء وأشلاء وثورة على غرار الثورة الفرنسية (1789). يقول آية الله السيدمحمد باقر الصدر: «نرى أن المجتمع الياباني وقف بمجموعه إلى جانب حركة التطور الصناعي والرأسمالي ولم يشذ عن ذلك حتى سادة الإقطاع أنفسهم، فقد آمنوا جميعا بأن حياة البلاد رهن هذه الحركة وتنميتها»، وحدث كل ذلك من خلال التوافق بين الحاكم ونخب المجتمع من مفكرين وعلماء في مختلف المجالات، والشعب بطبقاته المختلفة.

وهكذا قامت النخب من مفكرين وعلماء بدور حاسم وتاريخي قاد البلد منذ القرن التاسع عشر إلى مصاف الدول الصناعية وخلّصها من الإقطاع. والنخب يتوسطون المكان من حيث الأثر بين الدولة وبين المجتمع، ودورهم محوري في تشكيل توجه عامة الناس وموقفهم نحو الدولة ومشروعاتها، وان وعي الأمة مرتبط بنخبها من علماء ومفكرين، الذين هم جزء منها.

النقطة المهمة الأخرى هنا، ان الإقطاعيين قاموا بالتنازل بكل رضا عن الكثير من مصالحهم التي اكتسبوها بطرق غير شرعية وبواسطة تسخير الناس واسترقاقهم، وذلك من أجل مصلحة اليابان بعد أن أدركوا ان ذلك هو السبيل الوحيد لإنقاذ البلد. وفي كل تجربة سواء بدافع الخطر الخارجي أو الداخلي، وفي كل منعطف يمر به بلد من البلدان، لابد من حدوث التوافق حتى يمر بسلام، ولابد من تنازل فئات متمصلحة عن جزء من نفوذها ومصالحها التي حققتها بالظلم والعدوان، ومن دون ذلك فان خرط القتاد أقرب لتحقيق الهدف والمرور من المنعطف بسلام.

وإن محاولات بعض المتنفذين والمتمصلحين في السلطة السيطرة على مؤسسات المجتمع الأهلي من خلال صناعة جمعيات أهلية زائفة أو تسخير أقلام خائنة لدينها ولوطنها، أو استجلاب خبراء يضعون الخطط الإجرامية من أجل ما أسموه إحداث توازن بين طوائف المجتمع... هذه وغيرها محاولات لتزييف الواقع للآخرين وليس لأصحاب الشأن، ولا تزيد عن كونها حفراً في الماء، فالأجساد التي تئن من حرارة الفقر والحرمان لا يمكن اقناعها أنها تسبح في ماء بارد، وسواء تم تقليص الفئة المستهدفة من وراء هذه الخطط إلى 60 في المئة أو 40 في المئة، فهذا وغيره كله لن يغّير من الواقع شيئا، وسيبقى المريض يتألم ويصرخ ويقض مضاجع جيرانه، فلا إصلاح حقيقي من دون توافق يقوم على تراجع المتنفذين عن مصالح اكتسبوها بغير حق، ولهذا ينبغي تغيير المواقع وتعديل الأوضاع الظالمة التي صنعها هؤلاء حتى يحدث التوافق ويصدق الناس بأنهم خرجوا حقا من ظلمات الوهم إلى حقيقة وواقع جديد.

وفي الظروف الطبيعية، فان المبادرة في الأعم الأغلب بيد الطرف الذي يمتلك القوة، وهي الدولة، فلو أخلصت في خطواتها لإصلاح الأوضاع لما تلكأت النخب الوطنية من علماء ومفكرين ومثقفين عن حشد الناس خلف هذه الخطوات وانجازها. فقد تم إرجاع الإمبراطور الياباني للسلطة بدل الحاكم العسكري، و»إذا تغيّر السلطان تغيّر الزمان»، كما في الحديث، الذي يعطي دورا كبيرا للقيادة، ويحمّلها الوزر الأكبر في سعـادة أو شقـاوة الناس، لأن بيدها التصرف في أكثر إمكانات الدولة، وبيدها فرض القانون بالقوة، لذلك قال (ع): «الملك كالنهر العظيم تستمد منه الجداول فإن كان عذبا عذبت وإن كان ملحا ملحت»

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1505 - الخميس 19 أكتوبر 2006م الموافق 26 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً