العدد 1528 - السبت 11 نوفمبر 2006م الموافق 19 شوال 1427هـ

تطور العمل الخليجي بشأن المياه... بداية التعامل الجدي مع المشكلة المائية (5)

وليد خليل زباري Waleed.Zubari [at] alwasatnews.com

وليد خليل زباري

المقال السابق استعرض تطور الفكر والعمل الخليجي في فترة التسعينات، وتبين أنه على رغم التحذيرات والتوصيات التي تم إطلاقها في الكثير من المؤتمرات والمنتديات المتعلقة بالمياه بشأن ضرورة اتباع دول المجلس التخطيط المتكامل لموارد المياه وصوغ سياسات مائية وطنية متكاملة وتغيير أسلوب إدارة الموارد المائية المتبع آنذاك من جانب زيادة الإمدادات المائية والتوجه نحو جانب إدارة الطلب والمحافظة والترشيد والابتعاد عنه بما يتناسب مع شح الموارد المائية في المنطقة، إلا أن معظم هذه الدول استمرت في التعامل بالأسلوب القطاعي في إدارة الموارد المائية والتركيز على جانب زيادة الإمدادات المائية، ما أدى إلى تفاقم الوضع المائي في جميع دول المجلس. كما أصبح واضحاً أن ضغط النمو السكاني والسياسات الزراعية ومتطلباتهما المائية المتصاعدة هما قلب مشكلة تنمية الموارد المائية والمحافظة عليها.

وفي الحقيقة، أدى إتباع أسلوب زيادة إمدادات المياه، ومن دون قدر كاف من الاهتمام بتحسين وزيادة فعالية توزيع حصص المياه واستخدامها، إلى تراكم الكثير من الاستخدامات والأوضاع غير المستدامة للمياه في دول المجلس، كتدني الكفاءة، وتصاعد الطلب وتزايد معدلات استهلاك الفرد، وارتفاع كلف إنتاج وتوزيع المياه، وتدني نوعية المياه وإنتاجية الأراضي. وعلى رغم الجهود المضنية التي بذلتها هذه الدول في مجال تعظيم المتاح من الموارد المائية، فقد أثبت أسلوب إدارة المياه عن طريق توفير الإمدادات اللازمة منها فشله في تحقيق قدر معقول من استدامة موارد المياه أو توفير الأمن المائي لدول المجلس.

ويمكن القول إن الفكر الخليجي قد وصل في هذه المرحلة إلى قناعة مفادها بأن التحدي المائي الذي يواجه دول المجلس التعاون هو تحدي إداري بالدرجة الأولى وبأن الحلول الهندسية والتقنية لن تستطيع بمفردها التعامل مع المشكلة المائية المتفاقمة، وبأن عدم التوازن بين حجم المصادر المائية المتاحة والطلب عليها في دول مجلس التعاون سيكون مزمناً، إذا لم يتم التخلي عن السياسات الزراعية وتعديل السياسات السكانية، بالإضافة إلى اتخاذ خطوات جذرية لترشيد استخدامات المياه، والتنظيم الكفء للطلب عليها، ووضع ضوابط مناسبة لاستخدامات المياه، ومن دون ذلك فإن المشكلة المائية مرشحة لأن تتحول إلى أزمة مائية. وبأن ذلك يتطلب صوغ سياسات مائية وطنية شاملة وبعيدة المدى تركز على الترشيد وإدارة الطلب على المياه كخطوة أولى مطلوبة لرصف الطريق نحو التعامل مع المشكلة المائية في دول المجلس.

وفي العام 2001 عقد مؤتمر الخليج الخامس للمياه في الدوحة تحت شعار «الأمن المائي في الخليج»، وشارك فيه نحو 350 مشاركا. وجاء اختيار هذا الشعار متماشياً مع ما تم طرحه عالمياً خلال المنتدى العالمي للمياه في هولندا في العام 2000، إذ عقد أثناء المنتدى المؤتمر الوزاري عن الأمن المائي في القرن الحادي والعشرون، والذي تمخض عن تحديد تحديات رئيسة في العالم نحو هذا الهدف، شملت تلبية المتطلبات الرئيسية للإنسان من المياه، وضمان الإمداد الغذائي، وحماية الأنظمة الحيوية، وتطبيق النهج التشاركي في إدارة الموارد المائية والحاكمية الجيدة والعقلانية.

وعلى رغم اختيار موضوع الأمن المائي شعاراً للمؤتمر الخامس، إلا أنه لم تدر أثناؤه أية مناقشات جدية عن هذا الموضوع، ولم يخرج المؤتمر بأي تصور بشأن مفهوم الأمن المائي لدول المجلس ناهيك عن آليات تحقيقه، باستثناء تحذير عام عن عدم التوازن الحالي والمستقبلي بين حجم ومصادر الموارد المائية المتاحة الطلب عليها، وضرورة اتخاذ خطوات جذرية لترشيد استخدامات المياه وتنظيمها وزيادة المصادر المائية الحالية. وأكد المؤتمر ضرورة بلورة رؤية مستقبلية للمياه وصوغ السياسات المائية الوطنية في دول المجلس كخطوة أولية للتعامل مع مشكلة الندرة المائية في المنطقة. كما أشار المؤتمر إلى الخطوات التي تم اتخاذها آنذاك حيال اتخاذ التحلية خياراً إستراتيجياً لدول المنطقة ونية الأمانة العامة ودول المجلس في تنسيق بحوث التحلية فيما بينها، وأوصى بخطوات مماثلة لزيادة التنسيق والتعاون في مجالات المياه الأخرى ذات الأولوية بالمنطقة مثل مياه الشرب وموارد المياه الطبيعية ومياه الصرف والري. ويمكن القول إن هذا المؤتمر لم يكن في المستوى المطلوب مقارنة بالمؤتمرات السابقة التي عقدتها الجمعية، وانتقل من التركيز على جوانب الإدارة والتخطيط والسياسات المائية والترتيب المؤسسي وبناء القدرات، القضايا الملحة في المنطقة، إلى القضايا التقنية الضيقة، كما ركزت أوراق المؤتمر على تشخيص المشكلة المائية أكثر من طرح الحلول العملية لها. وبدا المؤتمر وكأنه متراجعاً، نوعاً ما، عن ما وصل إليه الفكر الخليجي في مجال المياه.

وبعد ذلك عقد مؤتمر الخليج السادس للمياه في العام 2003 في الرياض تحت شعار «الماء في الخليج... نحو تنمية مستدامة»، للتأكيد على دور المياه الحيوي في التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة. وشارك في المؤتمر ما يقارب 500 مشارك، ليصبح اكبر تجمع عقد حول المياه في المنطقة. واحتلت في هذا المؤتمر مواضيع سياسات واستراتجيات الإدارة المائية لمختلف المصادر المائية والقطاعات المستهلكة صدارة الموضوعات المطروحة في المؤتمر. وبين المؤتمر بأن شح الموارد المائية والارتفاع السريع للطلب على المياه ليس السبب الوحيد لتفاقم المشكلة المائية في دول المجلس، وإنما كذلك بسبب غياب التخطيط الشامل للمياه على المستوى الوطني وضعف التشريعات المائية والأطر التنظيمية وتعدد الجهات المسئولة عن المياه وتبعثر جهودها وتداخل مسئولياتها وضعف التنسيق فيما بينها. وأكد المؤتمر على ضرورة ابتعاد دول المجلس عن السياسات غير المستدامة المتمثلة في سياسات زيادة الإمدادات المائية والتوجه نحو سياسات إدارة الطلب على المياه إذا أراد أن تتحاشى أزمات المياه المستقبلية. كما أوصى المؤتمر بالعمل على توطين تقنية التحلية والاعتماد على الكوادر الوطنية في هذا القطاع المتنامي والهام. وعقدت على هامش المؤتمر ندوتين هامتين متعلقتين بالجوانب الاقتصادية والتمويلية للمياه، الأولى عن تعرفة المياه البلدية والثانية بشأن إشراك القطاع الخاص. ولقد أوصت الندوتين بوضع الضوابط القانونية والتشريعات اللازمة واعتماد سياسة واضحة تبين الدور المنشود من إشراك القطاع الخاص ووضع سياسة للتعرفة بالشكل الذي يحافظ على حقوق الدولة والمواطن والمستثمر.

ويشار هنا إلى أنه بسبب التدهور العام لحالة المياه الجوفية من انخفاض مناسيبها وتدني نوعيتها بدأت بعض دول المجلس في مراجعة سياساتها الزراعية، ووصل بعضها إلى قناعة بعدم إمكان تحقيق الاكتفاء الذاتي/ الأمن الغذائي في ظل شح الموارد المائية الطبيعية المتاحة. فبدءاً من العام 2000 اتخذت الحكومة السعودية خطوات جريئة في هذا الصدد مثل وقف توزيع الأراضي وتخفيض الإعانات الزراعية المتمثلة في دعم مدخلات الإنتاج الزراعي وضمان شراء المنتجات الزراعية من المزارعين لتخفيض معدل نضوب المياه الجوفية وكذلك لتقليل أعباء الموازنة. ولقد أدت هذه الإجراءات، بالإضافة إلى التأثير غير المباشر لتخفيض الدعومات على مشتقات النفط، إلى انخفاض معدلات الري الزراعي في المملكة.

كما بدأت دول المجلس الأخرى في تقديم أشكال مختلفة من الإعانات الزراعية الموجههة، وذلك بالتركيز على الإعانات الزراعية التي تشجع الاستخدام الكفء لمياه الري من خلال دعم أنظمة الري الحديثة الموفرة للمياه وبناء البيوت البلاستيكية وزراعة المحاصيل عالية القيمة النقدية، وزيادة استخدام المياه المعالجة في الري الزراعي، فيما استمرت بعض الدول في سياسات دعم أسعار المحاصيل (دولة الكويت والإمارات). إلا أنه وبشكل عام، لم تؤدي هذه الإجراءات إلى تخفيض هام في كميات المياه الجوفية المستهلكة في القطاع الزراعي في دول المجلس، ولم تظهر تأثيراتها على تحسن حالة هذه المياه الكمية أو النوعية. وتبين التقارير هجر الكثير من المساحات الزراعية في دول المجلس بسبب استمرار نضوب المياه الجوفية وزيادة درجة ملوحتها خلال هذه الفترة.

وفي مجال الترتيب المؤسسي، قامت المملكة العربية السعودية في العام 2002 بتوحيد الجهات المسئولة عن جميع الموارد المائية (الطبيعية والمحلاة والصرف الصحي) في وزارة واحدة - وزارة المياه والكهرباء، لتكون مسئولة عن قطاع المياه إشرافاً وإدارة ومراقبة وتنظيماً، وفصل وزارة الزراعة (المستهلك الأكبر للمياه الجوفية) عنها بسبب تضارب المصالح بين القطاعين المائي والزراعي. ويأتي ذلك كخطوة أولى للتعامل مع مشكلة المياه بالمملكة من حيث إيجاد ترتيب مؤسسي قادر على إدارة الموارد المائية بشكل متكامل. وبالفعل تبع ذلك البدء بمشروع لتقييم القطاع المائي في المملكة العربية السعودية تمهيداً لصوغ سياسة مائية وطنية، هي تحت الإعداد حالياً. كما تم مؤخراً في العام 2005 إعادة الترتيب المؤسسي في إمارة أبوظبي وتحويل «هيئة البيئة والحياة الفطرية» للإمارة إلى «هيئة البيئة - أبوظبي» ليضاف إلى مهامها جميع ما يتعلق بقطاع المياه من مهام التخطيط ورسم السياسات للموارد المائية ومراقبتها والمحافظة عليها, وبالفعل قامت الهيئة بإجراء الدراسات التقييمية لقطاع المياه ن مصادر واستخدامات، وإنشاء قواعد البيانات والمعلومات الجغرافية المتكاملة، وتحديد القضايا الرئيسية في القطاع، ووضع المقترحات المطلوبة لإدارة الموارد المائية بشكل متكامل في الإمارة. ويشار هنا أن سلطنة عمان قد سبقت جميع دول المجلس في إنشاء وزارة خاصة بموارد المياه منذ بدء التسعينات (تم ضمها في العام 2001 إلى وزارة البلديات والبيئة)، ويحسب لهذا الترتيب المؤسسي، بالإضافة إلى الإرادة السياسية القوية، الكثير من النجاحات التي تحققت في السلطنة في المحافظة على المياه ووقف تدهورها. أما بالنسبة لدول المجلس الأخرى فلقد استمرت إدارة وتنظيم وتنمية الموارد المائية مبعثرة ومجزئة بين عدة هيئات حكومية، مشكلة عقبة أساسية في وجه التخطيط الاستراتيجي للقطاع المائي فيها.

كما بدأت دول المجلس تدريجياً في النظر بجدية أكبر في موضوع إشراك القطاع الخاص في إنشاء وإدارة مرافق التحلية والصرف الصحي وتولي بعض من مسئوليات إدارة المياه البلدية لرفع الكفاءة وتقليل الإعانات وخفض الأعباء عن كاهل موازناتها العامة. وبدأت دول المجلس في دراسة الخيارات المتاحة لخصخصة قطاع المياه والكهرباء وإضفاء «الصبغة التجارية» على هذا القطاع للارتقاء بأدائه، وتم بالفعل القيام بخصخصة جزئية لإنتاج المياه المحلاة في بعض الدول، وتشير التقارير والدراسات إلى انخفاض سعر تكلفة إنتاج المياه في هذه المشروعات. ومن المتوقع أن تزداد وتيرة عملية خصخصة المياه مع الوقت في دول المجلس حيث توجد حالياً في هذه الدول سياسات واضحة وتوجه عام نحو تحفيز القطاع الخاص وجذب استثماراته للمساهمة في تحريك عجلة الاقتصاد الوطني والتحول العام لدور الدولة من تزويد الخدمة إلى التنظيم والإشراف والرقابة.

سيتم في المقال المقبل استكمال تتبع تطورات العمل الخليجي في مجال المياه وتحليل التقدم المحرز نحو التعامل مع المشكلة المائية في دول المجلس

إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"

العدد 1528 - السبت 11 نوفمبر 2006م الموافق 19 شوال 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً