العدد 1559 - الثلثاء 12 ديسمبر 2006م الموافق 21 ذي القعدة 1427هـ

الاعتراف يأتي دائماً متأخراً

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

تتوالى علينا الاعترافات هذه الأيام وتتداعى، ويعترف المعترفون بالأخطاء والخطايا طالبين التوبة أحياناً، ومكابرين أحياناً أخرى، خصوصاً إذا كانوا من طبقة الحكام وفئة المسئولين... المهم أن يأتي الاعتراف، حتى لو جاء متأخراً. أحدث المعترفين أمام هيكل الرأي العام، هو السكرتير العام للأمم المتحدة كوفي عنان الذي يوشك ان يسلم مقعده بعد أيام, وتحديداً مع اليوم الأخير من هذا الشهر. فعنان أراد قبل ان يغادر منصبه الدولي، أن يغسل ذمته ويطهر نفسه، بالاعتراف علانية أولاً بأن ما يجري في العراق أسوأ من الحرب الأهلية، وثانياً بأن الوضع الحالي في العراق أسوأ مما كان عليه ايام حكم صدام، وثالثاً بأن الحكومة العراقية «المدعومة بقوات الاحتلال الأميركي» فشلت في السيطرة على الأوضاع الأمنية ما يزيد الكارثة!.

حسناً... ثلاثة حقائق دامغة، ظاهرة بارزة، طالما قلناها، وقالها كل المحللين العرب والدوليين العقلاء لكن لم يكن أحد هناك يريد أن يسمع ويفهم ويعي، بمن في ذلك أساطين الأمم المتحدة ذاتها، اما حين يأتي كوفي عنان الآن فيؤكد كل هذه الاخطاء، ويعترف بها لأول مرة، بهذا الوضوح عالي الصوت، وفي وجه الغول الأميركي، فإن اعترافه جاء متأخراً كثيراً. ويصبح السؤال إذا كان الأمر كذلك: لماذا ظل السكرتير العام للأمم المتحدة، صاحب أهم وأعلى منصب دولي، صامتاً طوال السنوات الأربع الماضية، عازفاً عن قول الحقيقة، ممتنعاً عن المجاهرة بالاعتراف، هل كان بالأمس مخدراً وأفاق اليوم على هول الفجيعة الدائرة في العراق بعنف دموي غير مسبوق؟

الحقيقة المرة هي أن الرجل كان أسير المنصب، ولم يكن أسير الحق، كان مكيافيلياً بالأمس ويريد اليوم أن يتطهر من انتهازية المواءمة والموافقة السياسية، التي استدعت التوافق مع واشنطن، ومن ثم إخضاع استقلالية الأمم المتحدة للسياسات الأميركية، وبالتالي لم يكن مغامراً بالأمس جريئاً في قول الحق، ليعلن بحكم منصبه أن الغزو الأميركي للعراق الذي بدأ في مارس 2003 ولايزال عدواناً خارجياً بحكم ميثاق الأمم المتحدة، وان مضى الأعوام على هذا الغزو والاحتلال، أثبت أنه بني على معلومات خاطئة وسياسات مضللة، وأنه أدى في النهاية الى أن يصبح الوضع العراقي أسوأ تحت الاحتلال الأميركي، مما كان عليه تحت الحكم الصدامي. الآن حين يعترف هذا الاعتراف المتأخر، فإنه لا يستطيع ان يتطهر ويغتسل ويبرئ ذمته ويريح ضميره، من الجرائم المركبة التي تجري في العراق، من جريمة الغزو والاحتلال، الى جريمة تدمير كيان دولة عضو بالأمم المتحدة الى جريمة قتل أكثر من 650 ألف عراقي، الى التعذيب الوحشي والاغتيال العشوائي، الى إلهاب الصراع الطائفي والعرقي، وجريمة تدمير آثار حضارة من أقدم حضارات العالم، الى جريمة سرقة واستنزاف الثروة النفطية، وصولاً الى تحويل العراق لساحة دموية مرعبة تستقطب المقاتلين وتجذب المغامرين، وتخلط بين المقاومين والارهابيين، بين الوحدويين والانفصاليين... من دون تميز!

وفي مواجهة الاعتراف المتأخر، يصبح السؤال: هل لو قال الرجل كلمته هذه قبل عامين أو ثلاثة، كانت ستمنع أميركا من احتلال العراق، أو تعوق اندلاع القتال الوحشي وتوقف سيل الدماء المهدرة؟ نجيب، بالنفي طبعاً، فقد دخلت أميركا مغامرة غزو العراق، دون إذن من أحد، أو سماع رأي أو مشورة حتى أقرب اصدقائها، وحلفائها، باستثناء بريطانيا، ومن دون الحاجة أصلاً الى قرار دولي من الأمم المتحدة، فقد استبقت كل ذلك بإرادتها الحرة وتنفيذاً لسياساتها وحدها، التي صاغتها عصابة المحافظين الجدد، بقيادة تشيني ورامسفيلد وولفوفيتز وبيرل وفايث، والقائمة على مبدأ الحرب الاجهاضية، واستخدام الترسانة العسكرية في توسيع هيمنة الامبراطورية، وغزو العالمين العربي والإسلامي وكسر ظهره وامتهانه، باسم مكافحة الارهاب الإسلامي.

ولم يكن اعتراف عنان أو حتى مجاهرته برفض الغزو الأميركي للعراق، وتداعياته الكارثية، قادراً على إيقاف ذلك او عرقلته من الناحيتن السياسية والعسكرية، ولكنه كان قادراً على سحب الغطاء الاخلاقي والتأييد المعنوي له، وكان قادراً على تشجيع آخرين، بمن فيهم قادة ودول، على اتباع خط المعارضة، او على الأقل عدم التأييد والدعم والمساندة للغزو، وعدم الخضوع للابتزاز الهائل الذي مارسته واشنطن، بل ما حدث من عنان هو العكس تماماً، إذ كان سباقاً في التأييد العلني والسري للسياسات الأميركية، بما في ذلك غزو واحتلال دولة عضو في منظمته، وتقويض سيادتها وتمزيق وحدتها الجغرافية والسياسية، بما يعاقب عليه القانون الدولي، وكان متوافقاً تماماً مع تعليمات واشنطن وأوامرها، ونذكر انه في مواجهة الاندفاع الأميركي في حرب العراق، من دون غطاء شرعي دولي، هاجمها كثيرون، خصوصاً داخل الأسرة الأوروبية الحليفة والأسرة العربية المترددة، ما اضطرها في النهاية إلى العودة الى الأمم المتحدة، وحين عادت وجدت هذه الساحة ممهدة جاهزة. وكان عنان هو المهندس الفعلي لتوفير غطاء الشرعية الدولية عبر قرارات الامم المتحدة ومجلس أمنها، للغزو الاميركي، ومن ثم إضعاف حجة المعارضين والمحتجين، ولم يكن ليفعل الرجل ذلك إلاّ وهو مقتنعٌ بما يفعل، ولو لم يكن كذلك وأجبرته واشنطن على الامتثال والانصياع، لوجب عليه الاستقالة إرضاء لضميره المعذّب الذي صحا الآن فقط!

ومن الأمانة القول إن الرجل كان محكوماً بعدة اعتبارات سياسية وبرغماتية، فرضت عليه ان يجري في المضمار الأميركي جري الخيول، مثل إدراكه أننا في عصر الهيمنة الأميركية المنفردة، وأن هذه الهيمنة شرسة في التعامل مع معارضيها او منتقديها حتى من أقرب الاقرباء، وأنها هي الحاكم الفعلي للأمم المتحدة والممول الاكبر لها، وأنه شخصياً وغيره من كبار المسئولين في العالم، كانوا غارقين في التداعيات الصاخبة لهجمات سبتمبر 2001، وشاهد تهاوي برجي التجارة العالمية بالنظر المجرد من مكتبه مباشرة بحكم الجيرة في جزيرة منهاتن، وأن المناخ الدولي كان مشحوناً بالغضب ومهيئاً لتقبل أي انتقام أميركي من كل من هو في موضع الاشتباه، سواء في افغانستان او العراق، أو بلاد الواق الواق... لكن الأمانة تفرض أيضاً القول إنه على رغم أهمية كل هذه الاعتبارات السياسية والبرغماتية، فإن الاعتبار الأهم والحاسم، كان هو لاعتبار الشخصي بما يعنيه من مصلحة ذاتية... لقد سبق لعنان أن رأى رأس الذئب الطائر بعد أن أدماه السيف الاميركي، ولمس بنفسه جثته النازفة على مدخل مبنى الأمم المتحدة، لا يجرؤ أحد على محاولة إنقاذه.

كان عنان مساعداً للسكرتير العام للأمم المتحدة بطرس غالي، واحد المقربين منه، عاصر صعوده كنجم مصري عربي إفريقي في المنظمة الدولية، وعايش صراعاته وتوافقاته، حتى وقع غالي في المحظور، فدخل برجليه دائرة القتل الاميركي، حين أصر على استخدام صلاحياته في إعلان تقرير موفده للتحقيق في جريمة قانا اللبنانية، التي ارتكبتها «إسرائيل»، ضد المدنيين المحتمين بمبنى تابع لقوات الأمم المتحدة في جنوب لبنان، واستشهد فيها عشرات النساء والاطفال، وجاء التقرير ليدين «إسرائيل» بارتكاب المذبحة، ما أثار غضب «إسرائيل» الهادر، التي لم تكن لتغضب من دون أن تغضب أميركا... وما أدراك ما غضب أميركا.

هكذا دفع بطرس غالي ثمن فعلته، فأصرت واشنطن على الإطاحة به، من دون أن يحصل على تجديد ولايته للفترة الثانية، وفق العرف السائد، وهكذا جاءت بمساعده عنان ليكمل بشروط جديدة واعتبارات مغايرة، متعظاً بما حدث لرئيسه السابق، الذي ذبحته السكين الأميركية عبرة لغيره. حكمة رأس الذئب الطائر، هي التي احتمى بها عنان في السنوات الماضية، وخصوصاً أن حرصه على منصبه وامتيازاته الهائلة، هو الذي تغلب على عمله ليثبت حسن تعاونه مع السياسات الأميركية عموماً، ومع المندوب الأميركي الحاكم الفعلي للمنظمة الدولية، خصوصاً إذا كان هذا المندوب جون بولتون شديد الشراسة والعدوانية، باعتباره من صقور المحافظين الجدد.ولذلك قلنا ونقول، حسناً فعل عنان باعترافه الأسبوع الماضي، ولكنه اعتراف جاء متأخراً، في محاولة إبراء الذمة وغسل الضمير قبل أيام من ترك المنصب، وقياساً على الماضي، فإن الرجل لم يكن ليغامر بمثل هذا الاعتراف، لو كانت أمامه فرصة واحدة للتجديد له وللاستمرار نجماً إعلامياً وسياسياً أمام كاميرات الأمم المتحدة.

اعترف الرجل، على رغم كل التحفظات، تفيد أمثالنا من الشعوب التي تتعلق بالأمل الواهم، أو بالتصريحات اللفظية والمواقف العاطفية، لكنها للاسف لن تغير السياسات العدوانية الأميركية، المحكومة بمصالح استراتيجية عليا. ربما يغيرها أكثر ما جاء في تقرير لجنة «بيكر-هاملتون» عن تداعي الأوضاع في العراق، وضرورة البحث عن خروج آمن وسريع.

خير الكلام

يقول السيد المسيح (ع): «ماذا يفيد الإنسان لو كسب العالم كله وخسر نفسه؟»

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1559 - الثلثاء 12 ديسمبر 2006م الموافق 21 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً