العدد 1562 - الجمعة 15 ديسمبر 2006م الموافق 24 ذي القعدة 1427هـ

هل تفجر عولمة الرأسمالية ثورة فقراء العالم الثالث؟

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

عصر النهضة في الغرب هو فترة الانتقال من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، بين القرن الرابع والسادس عشر، ويؤرخ لها منذ سقوط القسطنطينية العام 1453 على أيدي العثمانيين الذي أسموها فيما بعد مدينة اسطنبول. سقوط المدينة دفع الكثير من العلماء إلى النزوح نحو ايطاليا، حاملين معهم تراث اليونان والرومان، ما فجّر النهضة العلمية والكشوفات والاختراعات التي انطلقت من إيطاليا لتشتعل اشتعال النار في الهشيم، وبالتالي تمتد إلى فرنسا وإسبانيا وألمانيا وهولندا وانجلترا وسائر أوروبا، وبلغت النهضة أوجها في القرنين الخامس والسادس عشر. ورافق هذه النهضة العلمية ظهور الكثير من التيارات الثقافية والفكرية. ونتيجة لهذه النهضة، انتهى عصر الإقطاع وبزغ نجم عصر النظام الرأسمالي الذي دُشّن بما أطلق عليه بالرأسمالية التجارية.

الرأسمالية التجارية بدأت في أعقاب اكتشاف رأس الرجاء الصالح، وامتدت لأكثر من قرنين ونصف، ابتداء من العام 1500 تقريباً، ورافقها بداية عصر الاستعمار الذي كان من أبرز أسبابه بجانب الأهداف الدينية الكنسية، البحث عن منافذ لتسويق المنتجات، والذي ترافق بعمليات نهب وسلب للبلدان التي تم اكتشافها من قبل أقطاب الرأسمالية التجارية. أعمال السلب والنهب من ضمن أسباب وعوامل عدة، أدت إلى تكوين رؤوس أموال ضخمة مكّنت ثلة قليلة في أوروبا من إقامة مصانع تعتمد الإنتاج الكمي الكبير.

ماركس على حق ولكن!

لقد كان ذلك في القرن التاسع عشر، حين دخلت أوروبا مرحلة الرأسمالية الصناعية التي بدأت في القرن الثامن عشر (1750 حتى 1870). في هذا العصر عايش كارل ماركس حينها الرأسمالية بشكلها المطلق الذي قاد إلى خلق ظروف قاسية بحق الأكثرية الذين أصبحوا مجرد أجراء لدى أصحاب رؤوس الأموال الضخمة، والذين قضوا على المنافسة واحتكروا الأسواق والإنتاج. وفي هذا التاريخ تم إخراج كل الفئات المنتجة الصغيرة من السوق عن طريق الإنتاج الكبير المعتمد على الآلة، والاستعانة بالمواد الخام التي تجلب من المستعمرات بثمن بخس.

هذه الأوضاع قادت إلى إيجاد طبقية حادة دفعت ماركس للتنبؤ بقرب حدوث الصراع الطبقي الثوري ومن ثم انهيار الرأسمالية بسبب التمايز الطبقي الحاد جدّا. إلاّ أن الأوضاع سارت خلاف ما توقّعه ماركس لأنه بنى تنبؤه من خلال الأوضاع في بريطانيا فقط، والذي آمن كما يقول الإمام محمد باقر الصدر ان «الانقلاب الثوري من قوانين التاريخ العامة. ومات ماركس واختلفت الأوضاع الاجتماعية في أوروبا الغربية، وأخذت الظروف السياسية والاقتصادية تسير سيراً معاكسا للاتجاه الذي قدره ماركس، فلم يتفاقم التناقض، ولم يتسع البؤس، بل أخذ بالانكماش نسبياً، وأثبتت التجارب السياسية، أن بالإمكان تحقيق مكاسب مهمة للجمهور البائس، بخوض المعترك السياسي دونما ضرورة لتفجير البركان بالدماء». (كتاب: اقتصادنا).

لم يكن ماركس مخطئاً في تنبؤه وإنما أخطأ حين حاول تفسير ما يحصل على ضوء نظريته المسماة بالمادية التاريخية. فلماذا لم تتحقق نبوءة ماركس وتتفجر الثورة في أوروبا الغربية؟ لقد تواكب انبثاق فجر الثورة الصناعية ومرحلة الرأسمالية الصناعية مع توسّع استعماري، سيطر كبار الرأسماليين على مفاصل الحياة الاقتصادية في أوروبا، وتم فتح البلدان الأخرى ومن ثم جعلها أسواقاً تستهلك فائض إنتاجهم، مع الحصول على مواد أولية تدخل في صلب إنتاجهم بأثمان ضئيلة.

إن التفكير الرأسمالي المادي الشرس قاد إلى الحملات الاستعمارية التي أدت إلى تدمير صناعات البلدان المفتوحة، وتم فرض تقسيم دولي للعمل يتسم بالظلم والإجحاف، يجعل من البلدان المستعمَرة، متخصصة في إنتاج المواد الأولية فقط التي تدخل في صناعات الدول الاستعمارية. ونتيجة لسياسات المستعمر، تم القضاء على الزراعة والصناعة في البلدان المفتوحة عنوة، وتشويه هيكلها الاقتصادي، فغالبا ما تكون هذه الدول تنتج سلعة واحدة فقط، ففي أثناء الاستعمار الفرنسي قضى على الزراعة في الجزائر وجعل من الأراضي الزراعية تتخصص في زراعة الكروم من أجل مصانع الخمر الفرنسية، وحوّلت السلطات الفرنسية بعض البلدان الزراعية لمجرد مزارع لزراعة أنواع الورود والزهور لتكون أفضل الدول في صناعة العطور.

وبعد أن نالت الكثير من بلدان العالم الثالث استقلالها السياسي، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، لم يتغير هذا الحال، إذ ما زالت تعتمد أكثر هذه البلدان في اقتصادياتها على سلعة أولية واحدة، وربما تشكل 90 في المئة من صادرات بعض الدول، بل كانت تبلغ 99 في المئة من صادرات زامبيا من الفول السوداني، ويشكل البترول 92 في المئة من صادرات كل من العراق وفنزويلا، والبن 84 في المئة من صادرات هاييتي، والسكر 80 في المئة لكوبا، والكاكاو نسبة 78 في المئة في غانا، والبن 70 في المئة في البرازيل، والنحاس 70 في المئة في تشيلي.

لقد اتخم الرأسماليون وشركاتهم بفائض كبير مقابل نقص وتخلف مدمّر في البلدان المستعمرة، ومجرد الفتات أسكت الشعوب الأوروبية التي أصبحت منذ ذلك الوقت تعيش كما تعيش القطط السمان على الفاضل من موائد أصحاب القصور الفارهة أو الشركات المتعددة الجنسيات، وكذلك تم تعديل النظام الرأسمالي القائم على اقتصاد السوق الحر عن طريق تدخل الدولة وتوفيرها الخدمات المهمة للمواطنين، الذي مازال مستمرا حتى يومنا هذا.

هذه العوامل وغيرها أبعدت شبح الثورة الداخلية، فمنذ ذلك الحين، من غير المسموح به الاستقلال الاقتصادي الحقيقي للبلدان النامية (المتخلفة)، ولبقاء النظام الرأسمالي يتطلب دائماً تفوقاً كاسحاً يكرّس مظاهر التخلف والفقر في البلدان النامية، إذ مازالت أكثرها تعتمد على منتجات مصانع الدول الرأسمالية المتقدمة، خصوصاً في الصناعات الثقيلة.

رأسمالية من دون الديمقراطية

إن الظروف التي توفرت لأوروبا الاستعمارية والتي مكنتها من التطور الصناعي على حساب تخلف الدول الأخرى، ليست متوافرة لدول العالم الثالث في الوقت الحالي، وفي ظل ظروف التخلف الذي تعيشها هذه الدول، تنطلق الدعوات الحالية من الغرب لعولمة اقتصاد السوق الحر، والتي تعني إدماج كل دول العالم في نظام اقتصادي واحد تحت شعار «العالم سوق واحد». ويتوقع منظّروها أن تتركز رؤوس الأموال في أيدي 20 في المئة فقط من السكان، إن على مستوى العالم أو على مستوى كل دولة. والمعروف أنه «حتى ما قبل الدعوات للعولمة، أي قبل سقوط الاتحاد السوفياتي، توجد فجوة عظيمة بين إجمالي الناتج المحلي للدول النامية والمتقدمة، وهي تزداد مع الأيام، فمنذ ثلاثة عقود فقط، بلغت نسبة الفرد من إجمالي الإنتاج الوطني بين الدول الرأسمالية الرئيسية والبلدان النامية 10 إلى1. ومع مطلع السبعينات، زادت هذه النسبة إلى نحو 13 إلى 1، حتى وصلت في سنة 1988 إلى 14 إلى 1 تقريباً». (ش فالنتين، الاقتصاد العالمي الجديد، المؤيدون والمعارضون).

وبحسب بعض التقارير الدولية الحديثة، فإنّ العالم النامي يضم ما يقارب 79 في المئة من سكان العالم، إلا أن نصيبه لا يتعدى 20 في المئة من مجموع الدخل العالمي، وتستحوذ الدول المتقدمة على 81 أكثر من 75 في المئة من هذا الدخل، وهي تمثل 18 في المئة تقريباً من سكان العالم.

وإذا أضفنا لكل ذلك، رفض الغرب لعولمة نزيهة لاقتصاد السوق الحر، لأن ذلك سيقود لتضرر الإنسان الغربي العادي بمستوى مقارب لتضرر الشرقي، ما يوّفر حافزاً للثورة والرفض في كلا العالمين، وهذا ما يحاول تجنبه ساسة الغرب. ومع بقاء النظم السياسية في البلدان النامية كما هي من حيث الاستبداد بالقرار، وإبعاد الشعب عن المشاركة مما سيفوّت فرصة التصحيح للأوضاع، ومع توّقع تكرّس هذه الحال، خصوصاً مع عدم حماس الغرب لعولمة الديمقراطية كجزء - يفترض حسب منطق الغربيين - مكمّلاً للرأسمالية، فسيتركز الأمر على العولمة في الجانب الاقتصادي فقط وبشكلها الحالي والغير منصف الذي يرضي الشركات العابرة للقارات، والذي لا يلتزم بتطبيق نظام اقتصاد السوق بشمولية تجعل من شعوب العالم كلها بمستوى واحد، ويتوقع الكثير من الباحثين أن تزداد الفجوة بين البلدان النامية والعالم المتقدم.

ومع وجود نظم حكم مستبدة، فالمتوقع أن تخلق هذه الحالة طبقية حادة جداً في البلدان النامية بالذات، وذلك عائد للتحالف القادم بين الشركات العابرة للقارات مع رأسمالية قائمة على فئة مقرّبة للطبقات الحاكمة في العالم الثالث، وهذا ما قد يقود إلى فقر مدقع للأكثرية، وتفاوت فاحش في المعيشة، وحصول اضطرابات وثورات في هذا العالم?

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1562 - الجمعة 15 ديسمبر 2006م الموافق 24 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً