العدد 1564 - الأحد 17 ديسمبر 2006م الموافق 26 ذي القعدة 1427هـ

صرعة الأحلام والمنامات...

الشيخ محمد الصفار mohd.alsaffar [at] alwasatnews.com

مقبولة قصص المنامات والأحلام حين تُقص على الصغار والأطفال الناشئين لتأكيد القيم الأخلاقية في نفوسهم بطريقة رمزية، ولإثرائهم بالكثير من المدلولات والألفاظ اللغوية التي يتطلبها السرد الأدبي والشعبي للقصة. ومقبولٌ ما يقال عن الحديث مع الصغار (حول الأحلام) بأنه يوسع من خيالهم ويقوي إدراكهم.

لكن أن تسوّق الأحلام والمنامات في فضاء المجتمع الواسع ولكل شرائحه وطبقاته وفئاته، وأن يتحدث الآخرون عنها في سياق التوجيه والتعليم والتثقيف وعلاج المشكلات وقراءة الغيب، فتلك مصيبة تتصدع لها الجبال الراسيات. إنها صورةٌ جليةٌ لممارسة الاستخفاف بعقول الناس في أبشع مظاهرها بؤساً وخطورة.

إن ذلك يحولها إلى سياق معرفي، ويؤكد مؤدياتها كحقائق ثابتة، ويساعد في انتشارها على الصعيد الاجتماعي كمسلمات لا تقبل الجدل والنقاش.

والضرر الأكبر هو ما تسنّه هذه المنامات من تهميش لعقول الناس وتسفيهٍ لتفكيرهم، وأخيراً إقناعهم بالأحلام بديلاً عن التفكّر والتأمل.

لقد برع أناس تستروا بأقنعة مقبولة عند الناس (دينية وغيرها) في التصدي لممارسة مهنتهم المربحة في تفسير أحلام الناس، وزاد من الأمر سوءًا أنهم في موقع يعزز هذا التوجه لدى شرائح واسعة من المجتمع، لتحل الأحلام والمنامات في موقعية التأثير في الحياة الاجتماعية العامة، وليتعامل معها كحقائق ربما تترتب عليها قرارات مصيرية في حياة الإنسان.

ولعل أهم ما يمكن ذكره في براعة المفسرين للأحلام هو فهمهم لنفسية السائل والرائي للمنام، ثم تطويعهم للأحلام بما يتواءم مع طبيعته، إمعاناً في الاستخفاف بعقله، وتأكيداً لصدقهم في تفسير منامه.

يقال أن رجلاً جاء إلى ابن سيرين يخبره عن حلمٍ رأى نفسه فيه مؤذّناً، فقال ابن سيرين له: «ستقطع يداك». وجاء إليه آخر يخبره عن حلم يشابه حلم الأول تماماً، فقال له ابن سيرين: «سوف تحج»، فاستغرب الجميع لهذين التفسيرين المتناقضين، مع أن الحلم واحد.

فلما سألوه عن ذلك، أجابهم أن الأول رجل تبدو عليه علامات الشر، والأذان الذي قام به في النوم يدل على أنه سارق وسوف تقطع يده، بدليل قوله تعالى: «ثم أذّن مؤذنٌ أيتها العير إنكم لسارقون»، (يوسف:70). أما الرجل الثاني فتبدو عليه سيماء الخير، وأذانه يدل على أنه سوف يحج إلى بيت الله الحرام بدليل قوله تعالى: «وأذّن في الناس بالحج» (الحج:27 ).

ظاهرة متكررة

يشاهدها الإنسان في غالبية البلاد العربية والإسلامية، أوراق تلقى على الأبواب وفي الأسواق أو تعطى بأيدي الأطفال لتصل إلى البيوت، وخلاصتها منامٌ رآه كاتب الورقة لأحد الصالحين ثم تحقق المنام، فأمره الصالح (الذي رآه في المنام) أن يكتب الرؤيا بعددٍ معينٍ ثم يوزّعها، مع تذييل الورقة بأن من قرأها فعليه أن يكتبها ويوزّعها بالعدد نفسه، ومن لم يفعل ذلك فله الويل والثبور، وله ما ينتظره من مصير أسود، وحال سيىء.

في هذا الصدد ينقل الباحث العراقي علي الوردي في كتابه «الأحلام بين العلم والعقيدة «، «أن رجلاً اسمه الشيخ أحمد كان يصف نفسه بأنه (خادم النبي) صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ومشكلته انه يرى النبي بين كل حين وآخر، فيأمره النبي ببعض الوصايا، ويأخذ الشيخ على عاتقه نشر تلك الوصايا بين المسلمين شرقاً وغرباً، والطريقة التي يستخدمها الشيخ في نشر الوصايا تذكرنا بعهد ما قبل اختراع الطباعة، فهو يطلب من كلّ من تصل إليه الوصايا أن يكتبها ويرسلها إلى غيره في البلاد المختلفة، وهو يروي عن النبي أن من يفعل ذلك يكتب له الله قصراً في الجنة، أما من لا يكتبها ولا يرسلها تحرم عليه شفاعة النبي يوم القيامة ويسودّ وجهه في الدنيا والآخرة»!

الغريب أنك ترى الناس مهيئين للإقدام على طباعتها وتوزيعها بوازع ديني أحياناً، وتسامحي في أحيان أخرى، أو بسبب الخوف الذي يتملكهم، وهو ما يسبب تمدد وانتشار مثل هذه الأوراق.

آثار اجتماعية

بقدر ما يثق المجتمع بعقله تنحسر عنه الخرافات والمنامات، ولا تلحظ لها آثاراً على جماعاته وأفراده، والعكس صحيح أيضاً. فحين يفقد المجتمع الثقة بعقله ويضعف تمسكه السليم بدينه ومبادئه، يقبل الاستخفاف بعقله، ويندفع لما لم يأمره به دينه، وحينها ينفتح على أبواب لا تعد ولا تحصى من الأوهام والخيالات، التي تأخذ مجراها وآثارها على أفراده وجماعاته، فهناك الكثير من الأمور التي كانت بداياتها أحلاماً ومنامات، لكنها أصبحت حقائق لا تقبل المس والتأويل، بل يدافع عنها أصحابها بكل قوة وتفان.

ينقل هادفيلد في كتابه «الأحلام والكوابيس» قصتين: الأولى عن رجل من الهنود الحمر رأى في منامه أحد المبشرين يسرق يقطيناً من مزرعته، فيستيقظ الرجل من نومه وهو غضبان وعازم على مطالبة المبشر بالتعويض، علماً بأن المبشّر كان في مكان يبعد عن مزرعة الرجل الهندي بمئتي ميل، وحين تفقّد اليقطين رآه موجوداً في مزرعته لم يمسه أحد، ولكنه أصر على طلب التعويض، إذ اعتقد أن رؤية المبشر في الحلم سارقاً دليل قاطع على انه مستعدٌ للسرقة لو كان قريباً من المزرعة، ولم يثن الرجل عن رأيه أي دليل مقنع!

أما القصة الثانية فهي عن شابةٍ حديثة العهد بالزواج رأت في منامها كأن زوجها يعاكس امرأة شقراء، فاستيقظت فزعةً حانقةً، وأخذت تشاكس زوجها وتتهمه بالخيانة الزوجية، ولما قيل لها بأن زوجها بريء مما اتهمته به أجابت: إذا كان زوجي يعاكس الشقراوات في أحلامي فماذا تراه يفعل في أحلامه?

إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"

العدد 1564 - الأحد 17 ديسمبر 2006م الموافق 26 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً