العدد 1581 - الأربعاء 03 يناير 2007م الموافق 13 ذي الحجة 1427هـ

الأم وبداية لرحلة الروح

سهيلة آل صفر suhyla.alsafar [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

رحلت عن دنيانا بجسدها النحيل عند فجر يوم الجمعة ويوم عرفة... اليوم المبارك، وثلاثة ملايين حاج يبتهلون إلى الله لتقبل دعائهم «لبيك اللهم لبيك».

هبط قلبي وأنا أراها فجرا ولأول وآخر مرة يشع فجر ونحن معا حينما سكت قلبها المتعب من السنين.

كان ذلك اليوم هو أطول يوم في حياتي، وكأن الساعة جمدت في مكانها وأنا أحاول أن أشبع منها ومن رؤاها قدر الإمكان... وكان وجهها الأبيض يزداد نورا وشعاعا يشع من جبينها ووجنتيها ويجعلها كالملاك المسجى... وأنا أودعها للمرة الأخيرة.

منذ عشرة أيام قررت الصمت الكئيب، لم نعد نسمع صوتها أو حنانها وهي تضمنا به وتطمئن علينا في كل حركاتها.

لقد أجبرت على الذهاب إلى المستشفى في ساعاتها الأخيرة... وهي تتألم طوال الليل، وقبل دخولها في الغيبوبة مطالبة بأن تعود إلى بيتها كي تنام في حجرتها وتغلق الباب عليها كعادتها! لقد كنت أوافقها لإيماني بأن الإنسان يدرك ساعاته الأخيرة ويجب تنفيذ وصيته ولكنهم لم يسمعوا لها ولم يسمعوا لي... كان الإخوان يخافون عليها ويحرصون على بقائها جسديا أكثر من حرصهم على صحتها النفسية... والتي هي أساس المقاومة الجسدية لحب البقاء... ربما سببه كان أن الجسد هو الشيء الملموس الذي يرونه ويبدو أنها غضبت لعدم تلبية رغبتها في إرجاعها إلى دارها وقررت معاقبتنا بالصمت الرهيب، فدخلت في غيبوبة بعد ثلاثة أيام ولمدة عشرة أيام... وحاولت أن تغتال نفسها مرتين وتوقف قلبها وتم تنشيطه، ولكنها نجحت في المرة الثالثة!

وأصرت على الرحيل الأبدي، وعدم العودة ولا بالطبل البلدي لتنشيط القلب... إن الشعور بفقدان الأم شعور غريب وصعب ويعذب الوجدان ويأكل في القلب، يصعب شرحه ويستحيل وصفه... ولن يعرفه إلا من فقدها وفقدان الأم أعز إنسانة بعد الخالق الجبار.

لقد عاشت معنا رحلة حياتية مضنية وممتعة... وقامت بالمساهمة مع الوالد بتخريج الجميع من الجامعات التخصصية العالية، ستة من الأبناء والبنات، وكذلك شاركت في تنشئة ستة عشر حفيدا وحفيدة، وأيضا تخريجهم من الجامعات... وكان حبها للجميع جبارا ولا تنسى أحدا.

كانت تصر على أن يتخرج الجميع من التعليم العالي وتنصح العائلات الأخرى بذلك... فالعلم كان السلاح الذي تشجع الجميع على حمله... كانت - رحمها الله - سخية في عطائها، شديدة التواضع في مظهرها وسلوكها على رغم ما أغدقه الله عليها من نعمته الوفيرة، كانت قوية وشجاعة وذات ذكاء حاد، كانت لا تحب إزعاج أحد في طلباتها وتقوم بمعظم احتياجاتها بنفسها كي لا تكون عبئا حتى على أبنائها مرهفة في أحاسيسها وشديدة الكبرياء والكرامة وعزة النفس.

إن فقدانها اخترق قلوبنا كالسيف الحامي وترك فيها هوّة عميقة يصعب التئامها أبد الدهر، وشعورا آخر بالذنب من أي تقصير أو هفوات أثناء تعاملاتنا اليومية معها.

كانت قريبة جدا من الله، وتقول دائما «إن الله يحبني ويحقق دائما ما أريده»، وشديدة الإيمان بالقدر وحب الآخرين صغارا وكبارا، وما يواسيني الآن بعد غيابها الجسدي المادي هو ظهورها لي وهي تحوم حولنا في البيت بروحها الشفافة الرائعة وإيحائها بأنها باتت سعيدة جدا مع عالم الأرواح الجميل وبأنها لم تعد تعاني من أية آلام جسدية.

كانت صداقاتها كثيرة، يحبها ويعرفها الجميع بـ «أم الدكاترة» المحبة للعلم...

لقد رحلت عنا في شتاء بارد وقارص وفي يوم إلهي مبارك... أشعر بها وهي تربت على كتفي، قائلة: كفاك حزنا يا حبيبتي فأنا لن أترككم!

وستبقى ضحكتكِ حولنا تحمينا كلما اشتقنا إليكِ، لأننا ندرك أننا سنتقابل معا إن شاء الله في جنة الخلد أجمعين... وإنا لله وإنا إليه راجعون.

إقرأ أيضا لـ "سهيلة آل صفر"

العدد 1581 - الأربعاء 03 يناير 2007م الموافق 13 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً