العدد 1596 - الخميس 18 يناير 2007م الموافق 28 ذي الحجة 1427هـ

نريدها إسلامية... لا أموية ولا صفوية

الشيخ حميد المبارك hameed.almubarak [at] alwasatnews.com

تلوح في الأفق بوادر فتنة طائفية تنطلق من العراق، وتتفاعل بالتدريج في كل المساحة الإسلامية، لتشكل خطرا على النسيج الاجتماعي، والوضع السياسي على طول تلك المساحة، وهذا ما يلقي بمسئوليات كبيرة على عاتق الفاعلين الدينيين والسياسيين معا، ليبذلوا قصارى جهدهم في دفع هذا الخطر الداهم.

ويكفي ذلك أن يكون مسوغا للدعوة إلى التخفيف من اقتضاءات العصبية المذهبية واستتباعاتها، توصلا إلى دفع الضرر الأكبر، الذي هو اشتعال حرب طائفية تقضي على كل إنجازات الإنسان في هذه المنطقة من العالم. وإذا كانت الحروب في الغالب تبدأ بالكلام والتنابز بالألقاب، فذلك يعني أنه قد دقت طبول الحرب الطائفية في كل المنطقة، وليس العراق فقط، إذ لا يمر يوم إلا وتصم آذاننا أصواتها البغيضة! فبعض الشعارات هنا تكاد تنبز أهل السنة بأنهم أمويون، وبعض الشعارات هناك تكاد تنبز الشيعة بأنهم صفويون، ويكرر البعض هذه الأيام مصطلح (الصفويون الجدد) ليرمز بذلك إلى خطر مزعوم يتهدد الأمة الإسلامية، وفي سياق ربط غير حكيم بين الماضي والحاضر وكأن تاريخ المسلمين ناصع البياض جدا، ما عدا بقعة سوداء تسمى الصفوية! وكأن الأمويين والعباسيين والعثمانيين كانوا مثلا للعدالة واحترام الإنسان!

ولكن الحقيقة هي أنه ليست مساوئ الأمويين والعباسيين والعثمانيين تنجر على أهل السنة، ولا مساوئ الصفويين تنجر على الشيعة، فقد راح الكثير من أهل السنة ضحايا لأولئك، وراح الكثير من الشيعة ضحايا لهؤلاء، فما ذنب الدين أو المذهب عندما يتلبس الطاغية بمسوحه، ثم يقتل النفوس ويهتك الحرمات باسمه؟ وما الداعي لاجترار الماضي وإسقاطه على الحاضر؟ أليس ذلك غفلة أو تغافلا عن حركة التاريخ وتطور التجارب لدى الأمم؟ فلا الشام اليوم أموية، ولا إيران اليوم صفوية، وإن برز في كل منهما عدد قليل يتمثل أولئك وهؤلاء، فهل من الصواب حصر أمة بكاملها داخل سياج ماضيها، ثم الاشتغال معها في دوامة الصراع القديم وتكراره عبثيا؟

صحيح أن التجربة الحاضرة لا يمكن فصلها عن التاريخ، ولا تكون الظواهر الاجتماعية والسياسية مقطوعة عن جذورها، ولكن علاقة الجيل الحاضر بالتاريخ هي علاقة بتجربة مرت وانقضت بكل ما فيها، ولا يلحق الجيل الحاضر شيء من وزرها، ولا يناله شيء من أجرها، ولكن الذي عليه فحسب أن يتعلم من خلالها كيف يقرر حياته الآن بحيث لا يكون رهينة للتاريخ، ولا محبوسا وراء قضبانه، ولا أسيرا لرهاناته، فالأمم القوية هي التي تعيد صوغ نفسها من خلال استغلال المساحات الايجابية في تاريخها، والاستفادة من أخطائها، ومحاولة تجاوزها، وليس التمترس وراءها وتحويلها إلى حدود مقدسة غير قابلة للاختراق، بحيث تكون معيقة عن ملاحظة كل طرف للسمات الإيجابية لدى الطرف الآخر.

ولو رجعنا إلى التاريخ الإسلامي سنكتشف أنه بزغ في الشيعة رجال عظماء قدموا خدمات جليلة إلى الأمة، وساهموا في ارتفاع شأنها، كابن سينا والعلامة الحلي مثلا، وقد برز كذلك في تاريخ السنة رجال أفذاذ يفتخر بهم تاريخ الإسلام كالإمامين الرازي والغزالي.

وكنت الأسبوع الفائت في طهران للمشاركة في مؤتمر علمي، أقيم بالتعاون بين رابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وبين المجلس الأعلى للشئون الإسلامية في مملكة البحرين، وذلك لغاية تكريم واحد من هؤلاء الأفذاذ، وهو العلامة الشيخ ميثم البحراني (قده)، إذ كنت ضمن وفد من البحرين ترأسه رئيس المجلس الأعلى للشئون الإسلامية الشيخ عبد الله ين خالد آل خليفة، إذ كان لنا لقاء بقائد الجمهورية الإسلامية في إيران آية الله السيد علي الخامنئي، الذي أكد إدانة أية كلمة أو سلوك يمكن أن يؤدي إلى تأجيج الفتنة وإيغار الصدور بين السنة والشيعة، واعتبر ذلك حراما وخيانة للمصالح العليا للإسلام، سواء صدر ذلك عن سني أو شيعي.

وكان الانطباع السائد في المؤتمر هو ضرورة تجنب الفتنة الطائفية والحذر من تبعاتها، وخصوصا مع وجود القوى الآتية من خارج الجسد الإسلامي، التي تسعى إلى ضرب كل مناطق القوة لدى المسلمين. وقد تناقلت وسائل الإعلام قبل أيام، تصريح أحد كبار المسئولين الأميركان، إذ قال: «إننا الآن في وضع أفضل في العراق، في ظل الاحتراب الطائفي بين السنة والشيعة!».

وتجدر الإشارة إلى أن الاعتدال المذهبي يعد من الملامح الواضحة في فكر العلامة الشيخ ميثم، وقد يكفي في ملاحظة ذلك مطالعة شرحه لنهج البلاغة، الذي تجنب فيه كل إثارة سلبية تجاه من يخالفه الرأي، بل كان يكتفي بالعرض العلمي للآراء، ثم يختار أحدها بأسلوب رصين، بل إنه كان يتلمس الأعذار للآخرين، إذ قال في مقدمة شرحه للخطبة المعروفة ب «الشقشقية» التي اشتملت على نقد ما جرى بعد النبي(ص) إلى حين مقتل الخليفة عثمان (رض): «إن من الشيعة من تطرف في دعوى تواترها، ومن السنة من تطرف في إنكارها ونسبها إلى الشريف الرضي»، ثم قال معتذرا عن المنكرين: «إذا كان قصدهم هو توطية العوام وتسكين خواطرهم عن إثارة الفتن والتعصبات الفاسدة، ليستقيم أمر الدين، ويكون الكل على نهج واحد، فيظهروا لهم أنه لم يكن بين الصحابة الذين هم أشراف المسلمين وساداتهم خلاف ولا نزاع فيقتدي بحالهم من سمع ذلك، فهذا مقصد حسن ونظر لطيف لو قصد». وكان - رحمه الله - كذلك لا يتأبى أن يترحم على العلماء من غير مذهبه في سياق ذكرهم والتعرض لأقوالهم كالإمام الرازي وابن أبي الحديد المعتزلي، هذا في حال إن العصر الذي عاش فيه يعد زمن الفتنة المذهبية بامتياز، وخصوصا في العراق، وفي حاضرتها بغداد، ولكنه لم يتأثر بذلك الهيجان، ولم تعصف بفكره الفتنة العمياء التي كانت مشتعلة.

ولعل من العوامل التي أكدت هذه الطريقة المعتدلة لديه، منهجه العرفاني، فإننا وجدنا أن طريقة العرفانيين تختلف عن المتكلمين والفقهاء، وذلك لأجل أن دور المتكلم هو صنع الأدلة العقلية التي يفترض أن تميز بين الحق والباطل، وتضع الحدود بينهما، ثم الدفاع المتواصل والدءوب لحماية تلك الحدود.

وإلى حد ما، لا يخرج الفقهاء عن سياق المتكلمين في صنع الحدود بين الصواب والخطأ وتمييزهما والإشارة إلى كل منهما، ولكن العرفاء لا يقررون براهين قاطعة وفاصلة بين الحق والباطل، بل يستندون إلى الوجدان، الذي هو مختلف من شخص لآخر، ولذلك قال بعضهم: «الوجدان محكمة بلا قاض». وكذلك نجد أن الغالب عند العرفاء والمتصوفة، الميل إلى نفي أو تخفيف الحدود المذهبية، والتعالي على الخصوصيات العقدية، كما قال ابن عربي: «وقد صار قلبي قابلا كل صورة، فمرعى لغزلان، وبيت لأوثان، ودير لرهبان، وكعبة طائف، وألواح توراة، ومصحف قرآن. أدين بدين الحب، أنى توجهت ركائبه أرسلت ديني وإيماني».

ويقول الشاعر الإيراني المعروف الملا عمر جامي، في شعر له بالفارسية: «إنه لشيء يسبب الغثيان أن يسألني أحد عن مذهبي وهل أنا سني أم شيعي؟». وقرر جلال الدين الرومي في ديوانه المثنوي بأن اختلاف المسلم والمسيحي و اليهودي ليس في الحقيقة ذاتها، بل هو في طرق الوصول إليها، أو بمعنى آخر، ليس في الجهة المنظور إليها، بل في طريقة النظر، وأنا في الحقيقة لا أتفق بشكل مطلق مع هذا التوجه الذي لا يخلو عن تطرف في حد ذاته، ولا أدعو إلى التخلي عن البحثين: الكلامي والفقهي لدى المختصين، وذلك لأنهما ضروريان لتقرير الاعتقادات الصحيحة، واستنباط الأحكام المقصودة للشريعة ولكن الضرورات لها استتباعاتها التي يجب أن نتعلم منها - مع المحافظة عليها - كيف نتجنب مساوئها ونستزيد من خيراتها.

إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "

العدد 1596 - الخميس 18 يناير 2007م الموافق 28 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً