العدد 161 - الخميس 13 فبراير 2003م الموافق 11 ذي الحجة 1423هـ

عودة ألمانيا دولة عظمى تشعل التنافس الدولي للسيطرة على العالم

محور برلين - باريس

أحمد عباس أحمد comments [at] alwasatnews.com

.

بمجرد انتقال العاصمة من بون الى برلين وتوحيد برلين بعد خمسين عاما من تقسيمها إلى شرقية وغربية، انتهت فترة الاحتلال الأجنبي للأراضي الألمانية الموحدة، ورفعت الوصايا الأجنبية عن ألمانيا، وأصبحت تنتهج سياسات مستقلة عن واشنطن وروسيا، القوى المحتلة المنتصرة في الحرب العالمية الثانية بعد دخول قوات الاتحاد السوفياتي برلين وتقسيمها الى جزء شيوعي وآخر رأسمالي. الحديث عن ألمانيا الجديدة، ينعش ذكرى الألمان والعالم بجمهورية فايمر التاريخية التي أعلنت في 1918 على انقاض الحكم الامبراطوري القيصري، الذي انهار بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. جمهورية فايمر هي أول جمهورية تعلن في التاريخ الألماني كله، وثالث جمهورية تعلن في أوروبا إذ لم تسبقها سوى الجمهورية الفرنسية التي أعلنت في اعقاب الثورة الفرنسية 1789، ثم جمهورية روسيا السوفياتية التي أعلنت في اكتوبر/ تشرين الأول 1917. وهذه التسمية الجديدة والمثيرة تعكس في الوقت نفسه الاحساس بعمق التغيرات التي يمكن أن تطرأ على السياسة الألمانية، التي يعتقد الكثيرون أنها تتجاوز مجرد استبدال مستشار من الحزب المسيحي الديمقراطي بمستشار آخر من الحزب الاشتراكي الديمقراطي وهو الأمر الذي حدث قبل ذلك مرتين، في الفترة من 1968 حتى 1982، وهي الفترة التي حكم فيها المستشاران الاشتراكيان وبللي براندت وهيلموت شميث.

الوحدة الألمانية الأولى حدثت في 1870 وعلى يد المستشار الأول اوتونون بسمارك وحماس الوحدة الثانية اصطدم بصخرة بطالة الشرقيين التي وصلت الى (24 في المئة) والفروق التي تواصلت بين أجور العاملين في الشرق والعاملين في الغرب، إلى الدرجة التي قال فيها بعض الكتاب الألمان وعلى رأسهم الروائي الألماني الكبير جونترغراس إنه بعد سقوط سور برلين الحجري، تضاعف الاحساس بالفرقة والانقسام بين صفوف الشعب الألماني.

جونترغراس أصدر روايته الشهيرة «حقول ممتدة» ناقش فيها مشكلات وحدة الشرق والغرب، منذ انشاء المانيا الغربية في 1948 على يد المستشار آديناور بعد الحرب العالمية الثانية.

السياسات الألمانية الجديدة

انضم حزب الخضر إلى تحالف الأحزاب الاشتراكية والفوز بالانتخابات ودخوله الحكومة الحالية. أول بادرة على استقلال السياسة الألمانية عن أميركا وروسيا، وظهور الشخصية السياسية الألمانية الجديدة بقوة على الساحة الدولية بتسلم قيادة أوروبا مع فرنسا.

حزب الخضر حزب صغير تشكل في نهاية السبعينات، وتشكل من مجموعات تحالف أنصار البيئة وحقوق الانسان، وأنصار السلام والمتعاطفين مع قضايا العالم الثالث. وهو حزب يساري التوجه يعارض الأحلاف العسكرية ويطالب بخروج ألمانيا من حلف الأطلسي، كما يعارض سياسات الهيمنة الأميركية على أوروبا والعالم. وقام طوال الثمانينات والتسعينات بدور نشط في معارضة اقامة قواعد عسكرية ذرية أميركية في المنطقة. وزعيم الحزب الحالي جوشوا فيشر، وزير الخارجية الألمانية الحالي، كان زعيما من زعماء ثورة الطلبة.

التي اجتاحت ألمانيا وفرنسا في 1968، وشارك في تظاهرات وفعاليات كثيرة على النطاق الألماني والأوروبي ضد حرب فيتنام، ونظام التفرقة العنصرية الذي كان قائما في جنوب افريقيا وضد سياسة العدوان الاسرائيلي، وطالب بمناصرة شعوب العالم الثالث ضد الفقر والحروب والاضطهاد.

هذه السياسات المغايرة لسياسة واشنطن دفعت المستشار شرودر شيئا فشيئا إلى تبني سياسة ألمانية مستقلة عن واشنطن ولندن.

المانيا وفرنسا ثنائيان مناوئان لسياسة التدخل الأميركي في الشئون الأوروبية ورفضا الوصاية الأميركية على أوروبا.

الدولتان قادتا أوروبا الي تبني سياسة خارجية مختلفة تماما عن السياسة الأميركية، وخصوصا في مجال التوسع في انضمام دول أوروبية إلى حلف الناتو، وسياسة التوسع في انضمام دول إلى الاتحاد الأوروبي. أما في قضية الشرق الأوسط فإن ألمانيا وفرنسا تؤمنان بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني على رغم عقدة ألمانيا المتعلقة بالاحساس بالذنب من معاملة هتلر لليهود. في افريقيا ترفض المانيا وفرنسا التدخلات الأميركية في بلدان افريقيا السوداء، وخصوصا في مستعمرات فرنسا السابقة. في التجارة ترفض ألمانيا سياسة أميركا بفرض قيود تجارية على الدول التي لا تؤيد سياسات أميركا التجارية في العالم، وترفض تقليص الفوائد المصرفية المفروضة على الشركات والمؤسسات الأميركية، وعلى ذلك الأساس أيدت دخول الصين والمملكة العربية السعودية وروسيا منظمة التجارة العالمية، وعلى رغم أن ألمانيا شاركت أميركا في حرب كوسوفو، وفي التحالف ضد الارهاب بعد حوادث 11 سبتمبر/ أيلول بارسال قوات ألمانية في الحملة على أفغانستان، فإنها ترفض رفضا قاطعا تقبل سياسة أميركا تجاه العراق. وتحركت مع فرنسا في مجلس الأمن لوقف أي محاولة أميركية لغزو العراق أو تحقيق أحلام أميركا في السيطرة على العالم، وثروات العالم الثالث، أو التحكم في الاقتصاد الدولي الذي تمثل ألمانيا الجزء الأكبر منه.

السياسة الألمانية تجاه العرب تغيرت أيضا عن سياسة برانت المتحالفة مع «إسرائيل» باسم الاشتراكية الدولية. أعتقد أن العرب يجب أن يعيدوا النظر في حساباتهم وتحالفاتهم مع القوى الكبرى لخدمة القضايا العربية. من المفترض أن تكون الحكومات العربية أكثر حماسا للتعامل والتقارب مع الحكومة الألمانية التي تضم تحالف الاشتراكيين والخضر. ولعل البعض لا يعرف أن سياسة المسيحيين الديمقراطيين وحلفائهم الليبراليين المرتبطين بالسياسات الأميركية، جعلوا ألمانيا الدولة الوحيدة في دول الاتحاد الأوروبي التي كانت تصوت دائما في الأمم المتحدة مع «إسرائيل» والولايات المتحدة. ولعلنا نذكر الإدانة التي أصدرتها الجمعية العمومية للأمم المتحدة أخيرا ضد السياسات العدوانية الإسرائيلية، لتغيير أوضاع مدينة القدس والأراضي المحتلة والمطالبة بوقف بناء المستعمرات الجديدة، تلك الإدانة التي وافقت عليها غالبية الدول الأعضاء بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي وعارضتها أميركا وإسرائيل ومكرونيزيا وألمانيا. ولعل البعض لا يعرف أن وزير الخارجية ألمانيا السابق في عهد المستشار المسيحي الديمقراطي هيلموت كول مرتبط بزوجة تحمل الجنسية الإسرائيلية، وغالبا ما كان يقضي اجازته هو والعائلة في تل أبيب. المؤكد أن المستشارين المسيحيين الديمقراطيين آدينارو وابرهارد، هما اللذان قررا في الستينات منح «إسرائيل» تعويضات هائلة تحت دعوى التكفير عما ارتكبه هتلر ضد اليهود. هذه التعويضات قدمت من الناحية الموضوعية مساهمة ضخمة في دعم «إسرائيل» ماديا وعسكريا على رغم أنها كانت ومازالت تحتل أراضي عربية وترفق قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة في إقامة دولته المستقلة. فهل تغيّر الحكومات العربية حساباتها، وتقيم الدور الألماني السياسي والاقتصادي الجديد في ضوء الحقائق السابقة، وتبتعد عن حليف معظم الدول العربية الأسبق بريطانيا التي تنتهج بالفعل سياسات معادية للعرب والبلدان الإسلامية، وتتقارب مع فرنسا وألمانيا؟

أستاذ العلوم السياسية في جامعة بونمشاركة كريستيان هاكه ووزير الداخلية الألماني أوت شيلي، قالا لمحطة التلفزيون الألمانية الاخبارية (فونيكس) لا أحد لا يعترف بالجرائم التي ارتكبتها النازية ضد اليهود، ولكن ذلك لا يعني السكوت على ما يجري الآن في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مشبها هاكه الممارسات الصهيونية بالنازية وان كان الفرق في عدد الضحايا فقط. وأيد ما قاله وزير العمل الألماني السابق السياسي المسيحي الديمقراطي نور برت بلوم، حين وصف ممارسات الآلة العسكرية الإسرائيلية بأنها حرب ابادة. الزعيم الليبرالي يورغن مولمان الناطق بلسان الكتلة النيابية التي تضم الاتحادين المسيحي الديمقراطي والاجتماعي في مجلس النواب الألماني (ألبوندستاغ) وهو كذلك رئيس جمعية الصداقة العربية الألمانية، من أشد المنتقدين للممارسات الهمجية الإسرائيلية وطالب الحكومة بتبني موقف حازم من «إسرائيل» والإرهاب الشاروني. وانضم عضو المجلس النيابي في ولاية رينانيا الشمالية وستفاليا جمال قارصي الذي ينتمي إلى حزب الخضر (من أصل عربي) إلى مساعي موليمان لتقليص الدعم الألمانية لإسرائيل، وهذا اختراق في السياسة الألمانية تجاه «إسرائيل» لم يحدث مسبقا.

خشية الأميركان من السياسات الألمانية الحديدة جسدها السفير الأميركي في ألمانيا دانييل كوتس، الذي يخشى أن تكون العلاقات الألمانية الأميركية تضررت بسبب معارضة المستشار الألماني جيرهارد شرودر لعمل عسكري أميركي ضد العراق. وفي اجتماع لرجال اعمال في فرانكفورت، أعرب كوتس عن مخاوفه من أن قضية العراق قد تضر بالعلاقات بين ألمانيا والولايات المتحدة، وأشار إلى وجود مساع لإصلاح العلاقات بين البلدين لإدراك أميركا أهمية دور ألمانيا السياسي في العالم. وعلى رغم ان أميركا الدولة الأعظم في العالم، وأن جورج بوش الأب هو مخترع فكرة النظام العالمي الجديد، فإن أميركا تدرك أن ميزان القوى يلزمها طلب المساندة الألمانية، خصوصا بعد دخولها مجلس الأمن الدولي، عضوا غير دائم لا يتمتع بحق النقض (الفيتو). ويذكر أن الأميركان أول المعترضين على انضمام ألمانيا واليابان إلى مجلس الأمن أعضاء دائمين، ما يعكس مدى تخوف أميركا من عودة ألمانيا قوة عظمى على الساحة الدولية وإخلالها بميزان القوى الحالي. المستشار شرودر يعتقد أنه من الخطأ مهاجمة العراق لأن ذلك من شأنه التسبب في مزيد من المشكلات في «الشرق الأوسط» وهذا الموقف عزز موقعه أمام منافسه المحافظ وجعله يفوز في الانتخابات الرئاسية في الانتخابات الأخيرة. الموقف الألماني الجديد ظهر جليا عندما استعملت ألمانيا وفرنسا وبلجيكا الفيتو في الحلف الأطلسي (الناتو) لوقف تزويد تركيا بصواريخ باتريوت حسب رغبة واشنطن، إلا أن رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير لا يعتقد أن موقف شرودر سيعزل ألمانيا في أوروبا، لسبب بسيط على ما أعتقد وهو أن قيادة أوروبا حاليا مع ألمانيا وفرنسا اللتان تمتلكان الامكانات السياسية والاقتصادية لقيادة أوربا، فهل تستطيع أميركا حقا عزل ألمانيا عن أوروبا؟ وخصوصا أن القارة الأوروبية بأكملها تعتمد على المساعدات المالية والاستثمارات الألمانية. يكفي ألمانيا فخرا أنها دعمت اليورو بعملتها المارك ليستطيع منافسة الدولار عالميا.

الرئيس الفرنسي جاك شيراك والمستشار الألماني لا يستطيعان تأييد أي هجوم أميركي محتمل على العراق من دون تفويض من الأمم المتحدة. وفي قمة فرنسية ألمانية عقدت في مدينة شفيرن بشرق ألمانيا أكد الطرفان، أنه لن يكون أي هجوم مبررا إلا إذا صدر بذلك تفويض من مجلس الأمن الدولي. هذا هو موقف ألمانيا وفرنسا، كما أن القوات الألمانية لا يمكن أن تشارك في مثل هذا العمل إلا بتفويض من الأمم المتحدة وفي حال موافقة البرلمان الألماني ولن تكون هناك غالبية تؤيد التدخل من دون تفويض من الأمم المتحدة.

القوة الاقتصادية الألمانية

الواقع أن ألمانيا ليست بحاجة إلى أن تثبت أنها القوة الاقتصادية الأولى في العالم، لا شك أن الجميع يدرك أن دخول أميركا في أي نزاع إقليمي سواء في الخليج أو أفغانستان أو افريقيا أو كوسوفو، يعول كثيرا على المساعدات الألمانية المالية لتمويل الحروب الأميركية، إلا أن عدم رغبة ألمانيا صرف فلس واحد لتمويل حرب أميركا الجديدة على العراق، قد يكون من أهم أسباب معارضة ألمانيا لشن تلك الحرب. إلا أن الاقتصاد الألماني مازال يضطلع بمسئولياته الدولية باعتبار أن ألمانيا دولة اقتصادية كبرى في العالم إذ تعهدت أخيرا الحكومة الألمانية بالتبرع بمبلغ مليون يورو (أي حوالي 1,45 مليون فرنك سويسري) خلال عامي 2003 و2004 لصندوق الائتمان العالمي لجدول أعمال التنمية، الذي أقره مؤتمر الدوحة التابع لمنظمة التجارة العالمية، ويأتي هذا التعهد بالإضافة إلى ما يقارب مليوني فرنك سويسري تعهدت بها ألمانيا مسبقا للفترة ما بين عامي 2002 و2005.

مدير عام منظمة التجارة العالمية سوباتشي بانيتشاكدي أكد أن المساهمات المالية الألمانية ستنقذ انهيار الاقتصاد العالمي الذي يواجه صعوبات لا مثيل لها. الدعم الألماني يمكن المنظمة من تقديم المساعدة الفنية إلى البلدان النامية، وبذلك تكون ألمانيا شريكة متساوية مع أميركا في المفاوضات التجارية الدولية، وبذلك تحسن من قدرته وموقعها في مجال التجارة الدولية ومنافسة البلدان الأخرى. وستساعد مساهمة ألمانيا البلدان النامية على تحقيق المزيد من المشاركة الكاملة في جولة تنمية مؤتمر الدوحة من خلال بناء قدراتها. تم تأسيس صندوق الائتمان العالمي لجدول أعمال التنمية لمؤتمر الدوحة عقب المؤتمر الوزاري الذي عقدته منظمة التجارة العالمية في الدوحة في نوفمبر/تشرين الثاني 2001، الذي أطلق جولة جديدة من المفاوضات التجارية بعد فشل مؤتمر سياتل 1999. وفي 11 مارس/آذار 2002 تعهدت الحكومات الأعضاء بالتبرع بمبلغ 30 مليون فرنك سويسري كان لألمانيا نصيب الأسد.

من ناحية أخرى فإن تأثير الهزة الاقتصادية على أوروبا وأميركا بسبب ضعف الاقتصاد الأميركي وتراجع معدلات نموه أثر أيضا تأثيرا سلبيا على الاقتصاد الألماني، لكن الاقتصادين الألماني والياباني اللذين يملكان أكبر فائض للتمويل في العالم، لن يتأثرا بالهزة الاقتصادية. وزير الاقتصاد الألماني هانس مايكل الذي انزعج من الهزة التي تشهدها الأسواق الأوربية والتهديد السلبي الناجم عن ذلك على الاستهلاك الخاص والاستثمارات، لم يتخوف ويؤكد أن الاقتصاد الألماني ينمو بسرعة أكثر من الربع الأول، وهو ما يعني أنه سيشهد ازدهارا مجددا، ولكن بالطبع ستترك هزات الأسواق الأوروبية آثارا لن تزول سريعا. وبلغ نمو الاقتصاد الألماني خلال الربع الأول من العام الجاري نسبة 0,2 في المئة وذلك بعد انكماشه في النصف الثاني من العام 2001. وعلى الصعيد الأوروبي تضاعفت الاستثمارات الصافية التي تدفقت على منطقة اليورو في مايو/أيار الماضي بالمقارنة بالشهر السابق مع تدفق أموال المستثمرين على أصول المنطقة مديرين ظهورهم للولايات المتحدة ما أدى إلى دعم سعر اليورو. وأظهرت بيانات البنك المركزي الأوروبي ومقره في فرانكفورت، التدفقات الصافية المجمعة للاستثمارات المباشرة والاستثمارات في الأوراق المالية على منطقة اليورو ارتفعت إلى 37,1 مليار يورو في مايو/أيار من 19,3 في أبريل/نيسان. الاضطرابات التي تعرضت لها بورصة وول ستريت، أثرت بدورها على البورصات العالمية، وزادت من قتامة التوقعات بالنسبة إلى الدولار في الأجل المتوسط، مع تشكيك المحللين في قدرة الولايات المتحدة على جذب الأموال لتعويض العجز في ميزان معاملاتها الجارية. وهذا دليل آخر على قوة الاقتصاد الألماني.

تضاعف القوة العسكرية

لم يقتصر ظهور ألمانيا دولة كبرى في مجال السياسة والاقتصاد فحسب، بل تنامى في المجال العسكري أيضا. ألمانيا تملك أحدث الامكانات التكنولوجية لتصبح دولة عسكرية كبرى، لكن عضويتها في حلف الناتو قلص كثيرا من اندفاعها إلى التسلح باعتبار أنها تلتزم بقواعد العمل في منظمة الحلف. والآن بعد مرور 50 عاما على توقيع المعاهدة التي نشأ بمقتضاها حلف الأطلسي وهو الحلف الذي مثل علاقة التحالف الأمني بين أميركا وأوروبا عبر المحيط، كما مثل حجر الزاوية في استراتيجية الأمن الغربي في مواجهة الكتلة الشرقية خلال سنوات الحرب الباردة لذلك فقد كان انهيار الاتحاد السوفياتي وتحلل الكتلة الشرقية وتنظيمها العسكري (حلف وارسو) بمثابة تحد صريح لوجود الحلف الأطلسي ولدوره في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وثار جدل واسع في داخل الحلف على الوظيفة التي يمكن له أن يقوم بها بعد انتهاء المواجهة. وكان أهم مظهر للاحتفال بمناسبة مرور نصف قرن على قيام الحلف، هو تنفيذ القرار القاضي بقبول عضوية ثلاث دول جديدة هي: التشيك، المجر، وبولندا فيه، ومثل هذا الانضمام دلالة تاريخية بالغة، فهذه الدول التي كانت حتى سنوات قليلة ضمن معسكر الأعداء باعتبار عضويتها في حلف وارسو، أصبحت الآن جزءا من التحالف الغربي. وعبر سكرتير عام الحلف خافير سولانا عن دلالة توسيع عضوية الحلف، بأن ذلك: يثبت أن الحلف سيبقى بابه مفتوحا أمام جميع الديمقراطيات الناشئة في أوروبا الوسطى والشرقية، التي تريد الانضمام إلى المؤسسات الأوروبية والأطلسية؛ والمستعدة لتحمل مسئوليات ذلك وفوائده، مشيرا إلى أن انضمام الدول الثلاث ليس نهاية المطاف، ولا ينبغي أن يعتبر أمرا منعزلا، وانما يندرج في إطار جهد أكبر لإقامة نظام أمني جديد في القارة الأوروبية، والحقيقة أن موضوع توسيع الحلف ليضم دولا من شرق أوروبا جاء نتيجة حوار وجدل واسعين دار عبر السنوات الماضية، وجاء قرار قمة الحلف في مدريد العام 1997 بتوجيه الدعوة إلى تلك الدول الثلاث للانضمام إليه، على أن يتحقق ذلك في أبريل/نيسان 1999، بمثابة ختام لهذا الحوار الذي دار في أروقة وزارات الخارجية والدفاع في دول الحلف، كما كانت مسألة التوسيع محل نقاش في الصحف وأدوات الإعلام.

بطبيعة الحال، فإن توسيع الحلف يعني في واقع الأمر توحيد أوروبا في إطاره، ما يعطي الفرصة لألمانيا للظهور قوة من جديد، خصوصا بعد قيادة فرنسا وألمانيا للحلف الذي لم يتبنى مقترحات أميركا بخصوص تسليح تركيا. محاولة أميركا إحداث انقسام في القارة الأوروبية، باءت بالفشل على رغم الخلاف على التصويت. الانقسام الذي ظل واقعا تعيشه القارة طوال هذا القرن كان باعثا على الوحدة، وإعطاء دفعة لجهود الاتحاد الأوروبي لضم أعضاء جدد، أما المعارضة الرئيسية لفكرة التوسيع، فقد نبعت من روسيا، التي اعتبرته تهديدا لأمنها القومي واضرارا بمصالحها الحيوية، واعتبر وزير الخارجية، وقتذاك، يفجيني بريماكوف: أن توسيع الحلف أكبر خطأ في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتخوفت فرنسا من أن توسيع الحلف يؤدي به إلى القيام بمهمات رجل بوليس عالمي.

كما برزت أصوات معارضة من داخل الولايات المتحدة نفسها، وعبر عدد من كبار المتخصصين والخبراء في شئون الأمن عن هذا الرأي، في خطاب مفتوح إلى الرئيس بيل كلينتون غداة انعقاد مؤتمر مدريد، وكان من بين موقعيه الرئيس السابق للجنة الاعتمادات العسكرية في مجلس الشيوخ سام نان والمفاوض الأميركي الرئيس في مفاوضات نزع السلاح مع الاتحاد السوفياتي قرابة عقد من الزمان بول نيتسه، وبنى هؤلاء معارضتهم لتوسيع الحلف على أساس أنه سيؤدي إلى إثارة جو من عدم الاستقرار في أوروبا، ذلك، أن من شأنه إغضاب موسكو: في وقت تحتاج فيه واشنطن إلى تدعيم عناصر بناء الثقة المتبادلة بين البلدين، كما أن توجيه الدعوة لعضوية الحلف إلى بعض الدول في شرق أوروبا دون غيرها، سيخلق شعورا بعدم الأمن من جانب الدول التي لم توجه إليها الدعوة أضف إلى ذلك أن هذا التوسيع ربما يؤثر على قدرات الحلف العسكرية، كما أثيرت مجموعة من القضايا الفنية، منها مثلا: طبيعة الضمانات الأمنية التي سيقدمها الحلف إلى الأعضاء الجدد، وعما إذا كانت ستتضمن مظلة دفاعية نووية، أم لا، فإذا كانت الاجابة بنعم فان ذلك يتضمن مزيدا من انتشار السلاح النووي وهو أمر يتعارض مع أحد التوجهات المعلنة للسياسة الأميركية، وإذا كانت الإجابة بالنفي، فإن ذلك يقلل من صدقية الحلف ويقسمه مجموعتين؛ احداهما تشملها مظلته النووية والأخرى خارجة عنها.

إلا أن موقف ألمانيا وفرنسا المؤيد للتوسعة، أجبر كلينتون على تغيير موقفه في قمة مدريد في 1997، وأيد الرئيس كلينتون موقف ألمانيا وفرنسا بأن قرار توسيع الحلف من شأنه تعزيز الديمقراطية واقتصاد السوق في أوروبا والعالم. ومن هذه الزاوية، يمكن النظر إلى هذا القرار على أنه حلقة ضمن التحركات الأميركية لوضع أسس جديدة للأمن في أوروبا في مرحلة ما بعد «الحرب الباردة» وتتضمن هذه الأسس: دعم سياسات التحول الديمقراطي، والتوجه نحو اقتصاد السوق الحرة في دول شرق أوروبا، وإبرام اتفاق للتعاون بين الحلف وروسيا، وانضمام موسكو عضوا كاملا إلى مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى في العالم، وتوقيع سلسلة من الاتفاقات بين الحلف و28 دولة أوروبية في إطار ما سمى بمجلس المشاركة الأوروبية الأطلسية.

مما تقدم ذكره من حقائق، فإن هناك حقيقة واحدة راسخة في البال، وهي أن الأداء الألماني العالمي في مجالات العلم والتكنولوجيا والاقتصاد والمال أحدث شرخا في معادلة النظام العالمي الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة من خلال السيطرة على الأمم المتحدة وقراراتها. هذا التغير في ميزان القوى، يشعل المنافسة الدولية للسيطرة على العالم بين أميركا وفرنسا وألمانيا، الأمر الذي سيدخل حتما الصين وروسيا واليابان ميدان السباق. كما أن ارتكاب واشنطن لحماقات عسكرية جديدة سيؤكد صحة المعادلة الحالية للقوى العظمى في ساحة السياسة الدولية، كمهاجمة العراق وإيران وسورية ولبنان أو كوريا الشمالية التي فشلت في إحراز نصر ضدها في الحرب الكورية في العام 1954

العدد 161 - الخميس 13 فبراير 2003م الموافق 11 ذي الحجة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً