العدد 1617 - الخميس 08 فبراير 2007م الموافق 20 محرم 1428هـ

الظاهرة الدينية بين السلب والإيجاب «أمر بين أمرين»

الشيخ حميد المبارك hameed.almubarak [at] alwasatnews.com

كل مشاهد للوضع الاجتماعي في العالم الإسلامي يدرك أن الحال الدينية تعيش أوج فاعليتها وقوتها، ويكفي في الإذعان بذلك دراسة نتائج الانتخابات التي جرت في كل من الأردن وفلسطين والعراق والبحرين، وكذلك ملاحظة تسارع انتشار مظاهر التدين بين الرجال والنساء على السواء وبدرجة قياسية والجموع الغفيرة التي تؤم المساجد في الجمعات والجماعات.

وهذه الظاهرة من الوضوح بحيث لا يستطيع أن يجادل في شأنها أحد، بل أصبح الجميع أنظمة وأفرادا ومؤسسات في سباق محموم للاستفادة منها بل استغلالها إلى حد المزايدة عليها، ولكن السؤال المهم هو عن دلالات هذه الظاهرة فهل تعكس تطورا في الخطاب الديني استحق بسببه أن يحقق هذه الفاعلية والقدرة في التأثير كما يقول الدينيون؟ أم الأمر على النقيض وأن انتشار الظاهرة الدينية إنما هو بسبب حال تقهقر في الوعي العام سمحت بهيمنة الفكر الأسطوري الحديث والذي يعيد إنتاج المخيال القديم ولكن بصوغ جديد خلاب ومخادع كما يقول اللادينيون أو الناقدون للفكر الديني السائد؟

ويستدل هؤلاء على ما يقولون بأن الخطاب الإسلامي المعاصر لم يسجل أي تقدم ملحوظ في مواكبة تطورات الحياة إذ لا يزيد في مجمله على الخطاب الخمسيني، والذي يمثل رجوعا للسلفية الأولى في ثوب جديد قد يبعث الرضا في النفوس الى حين، لكونه يوهمنا بالتغيير والحركة ولكنه سرعان ما يعيدنا إلى دائرة الفشل عندما نكتشف لاحقا بأنه لا تقدم يذكر في مجال صنع النظرية، إذ مازال الأمر يكتنفه الكثير من الغموض في شأن الكثير من المساحات المهمة في الحياة المعاصرة كقضايا المرأة والاقتصاد وشئون الدولة والعلاقات مع غير المسلمين.

كما إنه لا تقدم يذكر في مجال السلوك إذ لم نلاحظ لذلك الانسياق الجماعي نحو التدين أثرا إيجابيا ملحوظا على الأخلاق والعلاقات البينية في المجتمع، والأدهى هي تلك الثقافة المصاحبة لاتساع ظاهرة التدين والحجاب والجلباب إذ نلاحظ انتشارا للإيمان بالخرافات والشعوذة وعزوفا عن تطوير الحياة وقبولا عاما بالعنف الفعلي أو القولي كوسيلة رائجة للتعبير والتغيير.

وكل هذه الشواهد تعزز احتمال دخالة أسباب من خارج الخطاب الديني ساهمت في تقدمه ميدانيا ومن ذلك عوامل الشد السياسي بين المسلمين والقوى المهيمنة في الغرب، وفشل المشروعات السياسية غير المنتمية للدين في العالم الإسلامي، فهذا هو منطق الناقدين أو الناقمين على الفكر الديني السائد، ولكن في مقابلهم استدلال آخر يقول إن هيمنة الفكر الديني وتأثيره القوي دليل على جدارته ومقبوليته في الناس، وتناغمه مع ضمائرهم وتطلعاتهم وآمالهم ولا ينجر عليه سوء الأوضاع الاجتماعية والسياسية في العالم الإسلامي فذلك في الحقيقة يعود الى أسباب كثيرة من الظلم بمكان أن نحصرها في العامل الديني.

ومهما تكن الحال فإنه لا ينبغي إغفال ضرورة التأمل في واقع التنظير الديني من حيث افتقاره إلى فهم عملاني يتناسب مع تطورات الحياة وتغير البنى الاجتماعية والثقافية، وهذا ما كان يؤكد عليه المصلحان العظيمان السيد جمال الدين وتلميذه الشيخ محمد عبده منذ عقود مضت، فقد تحدثا كثيرا عن ضرورة الاستعانة بالواقع في مقام فهم النص وصنع النظرية، بل نجد نظير هذا الوعي أيضا لدى من يعتبره الكثيرون رائدا للسلفية الحديثة وهو العلامة أبوالأعلى المودودي رحمه الله، إذ قال بضرورة الربط بين النظرية الدينية وبين الحاجات الواقعية الميدانية، كما نقل عنه محمد عمارة في كتابه (مقالات الغلو الديني واللاديني) «إن الشريعة الإسلامية لم تعطنا دستورا مفصلا لكل زمان ومكان، ولم تعطنا ضابطة تفصيلية لإدارة الحكومة بكل تفاصيلها، ومعنى ذلك أن أوكل إلينا أن نضع الضوابط التفصيلية في قانوننا الإداري حسب حاجاتنا وأحوالنا على مثل ما قد وكل الينا في قانوننا الدستوري وذلك ضمن الشريعة وقواعدها الأساسية. فالأمة نائبة عن الله وهي تنتخب حاكمها ونوابها بطريقة ديمقراطية الأمر الذي يجعل الخلافة الإسلامية ديمقراطية متقيدة بقانون الله عز وجل»، فنلاحظ في كلامه ثلاث نقاط مهمة وهي: أولا عدم وجود قوانين شرعية تفصيلية في النظم الحياتية بل مجرد ضوابط وأسس عامة تبنى تحت ظلها القوانين المبنية على دراسة تفاصيل الحياة، وثانيا نفي النظام الثيوقراطي وتأكيد حاكمية الأمة على نفسها، وثالثا نفي التضاد بين الأطر الدينية العامة والديمقراطية.

ولكن أبطال الصحوة الإسلامية لم يأخذوا هذا الكلام مأخذ الجد بل لايزال بعضهم يصر على وجود ثوابت منصوصة في كل المساحات الفكرية والسلوكية من اعتقادات أصلية إلى مسلمات فرعية ارتقت بفعل عوامل التاريخ إلى درجة الأصلية ومن المعاملات الى العبادات وصولا الى مسائل جزئية جدا كتقليم الأظافر واستعمال السواك! وكذلك لايزال الكثير من المنظرين الدينيين المحدثين يكابرون على مشروعية الأخذ برأي العموم في سندية الحاكمية والسلطة وفي كيفية نظام الحكم، وقد أشار محمد عمارة في كتابه المذكور آنفا الى انتهازية بعض السلفيين الذين اقتطعوا كلمات المودودي من سياقاتها واستدلوا بها على ما كانوا يرومون اليه ولم يلحظوا مجمل كلماته التي جاءت في سياقات وظروف مختلفة.

وفي الحقيقة فإن جميع الأطروحات المقترحة لتطوير الخطاب الديني قابلة لأن تقاس بمعايير مختلفة ومتعددة الوجوه وحتى الدعوة الى احترام العقل، كشرط أولي للنهضة الفكرية فسيتلقاها بعضٌ على أساس تسييد العقل ليتجاوز أطر النص وقيوده وخصوصا الغيبية منها، ولكن سيتلقاها طرف آخر على أساس الرجوع للنص والتقيد به حرفيا، وذلك لأن مقتضى العقل هو التقيد بقول من يستمد التسديد من الله وهو المعصوم في قوله وفعله، فخلاف العقل جدا أن يستبدل الفرد ذلك القول بغيره ما لا يرقى إليه في درجة الوثوق، وسيتلقاها طرف ثالث بطريقة مختلفة تماما وهي عقلنة النص أي تفكيكه على أساس عقلاني وفصل الثابت فيه عن المتحرك والتشريعي فيه عن التدبيري.

ثم إن الدعوة الى إطلاق العقل قد يتلقاها آخرون بأنها منافية للعقل ذاته وذلك لما يترتب عليها من مفاسد خطيرة تصل الى حد التلاعب بالثوابت الدينية وتضعيف ثقة سواد الناس بالدين، وذلك لأن تأثير إلقاء الشبهة أكثر سرعة وإيغالا في النفوس العامة من جوابها والرد عليها، هذا في حال ان العقل البشري عاجز عن إدراك كل المصالح الواقعية، ولذلك فإن مساحة واسعة من التدين تستند الى التسليم، ولذلك قال الفقيه الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه «الدين والعقل» إن الدين لا يدعو الى العقل المطلق ولو دعى اليه لقضى على نفسه بنفسه! ولكن آخرين سيقولون إنه لا معنى للتسليم بالدين ونصوصه الا بعد الإذعان بكونه حقا وطريق ذلك هو العقل فحسب، فهذا الاستدلال يثبت أسبقية للعقل على النص، وقد صرح فقهاؤنا الأقدمون بأنه يحرم التقليد في الأصول العقدية وعدم جواز التقليد يساوي وجوب البحث وهو يقتضي تقبّل كل الأسئلة المترتبة عليه وما يمكن أن يستتبع ذلك من نتائج مختلفة من شخصٍ لآخر ومن بيئةٍ لأُخرى.

وهكذا نجد ان كلا من الأفكار والظواهر تتأرجح دائما بين السلب والإيجاب، ولكن الشيء المهم هو الفهم الذي يحقق توازنا بحيث لا يكون تطرف في القبول ولا تطرف في الرفض، فليس شيء من النتاج البشري يستحق القبول المطلق وليس شيء منه جدير بالرفض المطلق بل الأمر دائما بين أمرين.

إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "

العدد 1617 - الخميس 08 فبراير 2007م الموافق 20 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً