العدد 1624 - الخميس 15 فبراير 2007م الموافق 27 محرم 1428هـ

الدين بين العقل والعقل «مجرد تساؤلات»

الشيخ حميد المبارك hameed.almubarak [at] alwasatnews.com

كان ولايزال دور العقل في مساحة فهم الدين مثار جدل وخلاف على أساسه تمايزت الأطياف والمذاهب المختلفة داخل الدين الواحد ولكن لا أحد يجادل في أصل إعمال العقل في تلقي المضمون الديني فالخلاف في الحقيقة يعود الى مراتب العقل وليس في أصله.

فالنص هو طرف المعادلة والطرف الآخر هو الإنسان الذي يتلقاه ويستنبط مدلوله ولذلك نستطيع القول إن الذين ينكرون العقل كمصدر من مصادر التشريع لا يقصدون نفيه بشكل مطلق ولكنهم يناقشون في تفسير مراتبه وحدود اعتباره فحسب، فما هي حدود العقل المسموح بها في مقام فهم النص؟ إذ إن القضية مثار جدل قديم يتأرجح بين منظومتين متباينتين، وسبق لي أن التقيت مدير مركز تطوير المهارات والقدرات التابع الى الاتحاد الإسلامي لشمال أميركا (إيسنا) لؤي صافي ودار الحديث معه عن نقاط الاختلاف بين أنماط التفكير لدى الغرب وأنماط التفكير لدى المسلمين وما نتج عنه من سوء الفهم بين الثقافتين، ثم انساق الحديث الى كتابه الشهير «إعمال العقل من النظرة التجزيئية إلى الرؤية التكاملية» - دار الفكر 1998 - الذي مايز فيه بين عقلين يتعاطيان مع النصوص بمنهجية مختلفة، إذ قال: «يوجد عقلان: العقل التراثي المكبل بالقرائن اللفظية للنصوص والدلالات التاريخية للألفاظ، والعقل التكاملي الذي يفهم النص ضمن سياقه الخطابي والحالي ويسعى إلى تحديد مقاصده الكلية ويربطها بالمقاصد العامة للخطاب».

وأثناء الحديث معه مثّل لؤي صافي لربط النصوص بسياقها الخطابي والحالي ومقاصدها الكلية بحديث «من بدل دينه فاقتلوه - رواه الفريقان»، فقال إنه لا يتعين أن يكون مضمونا تشريعيا ثابتا، فمن الممكن أن يكون حكما تنظيميا يرتبط بسياق تاريخي معين، وتحدث عن هذا الموضوع كذلك جملة من الفقهاء والمتفقهين المعاصرين أمثال الشهيد السيد محمد باقر الصدر وجمال بدوي ومحمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله وحسن الترابي والسيد محمد الشيرازي وطه جابر العلواني وعبدالكريم الأردبيلي ومعروف الدواليبي وآخرين، ولكني أثرت مع لؤي صافي عدة إشكالات ترتبط بهذا المنهج، إذ لم تتم بعد بلورة منهجية واضحة ولا ضابطة محددة للتعرف على الغايات الحقيقية للنصوص أو سياقاتها التاريخية الصالحة لتقييد مضامينها، فمن الممكن حينئذ أن تنفتح هذه المنهجية على فوضى عارمة في استنباط الأحكام الشرعية ويختلط الحابل بالنابل كما يقول المثل، ثم ما هو مدى إمكان احتمال سراية هذا البحث الى النص القرآني؟ فهي قضية في غاية الخطورة من حيث استتباعاتها ولوازمها ويجب التعامل معها بحذر شديد وذلك لخصوصية النص القرآني من حيث كونه دستورا للإسلام الذي هو خاتم الأديان الوحيانية ومقتضى ذلك أن يترفع على التاريخ والزمان والمكان، بل ما هو الدليل أصلا على إمكان أرخنة النصوص الدينية بمعنى ربطها بسياقاتها وتقييد مضامينها مع إن النصوص ذاتها خالية من التنبيه على مشروعية هذه الأرخنة أو حتى الإشارة إليها ولو بطرف خفي مع أهميتها القصوى في مقام فهم الدين؟

ولعل هذه الإشكالات أو بعضها كانت دواعي لمشهور الفقهاء الذين لم يرتضوا هذه المنهجية في مقام الاستدلال، ولكن هذه الإشكالات الخطيرة - مع إمكان التخفيف من حدية بعضها وخصوصا الأخير منها - تقابلها قرينة عقلية سياقية تحتفي بالنصوص التدبيرية التطبيقية - وليس كل النصوص- وتلك القرينة هي لزوم أن يراعي النص الخصوصيات الشخصانية والزمنية للحال الاجتماعية أو السياسية التي هو في صدد علاجها وذلك ليتناسب معها ويكون على مقاسها، فكيف يمكن فرضه متعاليا عليها وخارجا عن مقتضياتها؟ وهكذا نعود الى أول الجدل من جديد بعد ظن الفراغ عنه!

وجدير هنا أن نذكر مفارقة بارزة، فبينما لا تنفك النصوص الدينية عن الإشادة بدور العقل وكونه الأمانة التي يتمايز بها عن سائر الموجودات وأنه الشيء الذي به يثاب الإنسان ويعاقب إلا إن البحث العقلي الحر في المعاهد والحوزات الدينية مازال يعاني من صعوبات كثيرة بلغت أوجها في بعض الفترات الزمنية بتحريم الفلسفة واعتبار متعاطيها منحازا عن الطريق القويم وقد اشتهر «من تمنطق فقد تزندق» ولكن الشعور بالمفارقة يضعف كثيرا عندما نتأكد بأن الجدل في الحقيقة ليس عن العقل ذاته بل هو في مداه وحدوده أو لنقل في تفسيره وما هو المقصود به «ما هو العقل؟» وهل يمكن أن يُفرض على العقل قيد من خارجه؟ وهل المقصود بالعقل في كلام الفقهاء هو ذاته في كلام الفلاسفة؟ وهل المقصود به في كلام الفقهاء النصوصيين (الإخباريين) هو ذاته المقصود به في كلام الفقهاء العقلانيين؟ وما هو الفرق بين العقل النظري الكلي التجريدي وبين العقل الاستقرائي التجريبي الواقعي؟ وهل إن ثنائية بسكال مثلا «نحن نلتزم بالدين لأنه إن كان حقا فسنفوز بالجنة وإن لم يكن حقا فلن نخسر شيئا» تندرج تحت ضابطة العقل، مع إن البعض يعتبرها استعاضة عن العقل ومغالطة عليه؟ وهل يوجد عقل سيد في قبال العقل الموجه؟ أم الجميع أسير تكوينه الذهني والنفسي وأن التفكير عند الإنسان ليس سوى تحريك للمخزون عنده وكل ما يرد عليه من خارجه يتفاعل مع ذلك المكون الداخلي ويتكيف حسب قوالبه؟ وهل يوجد عقل فردي في مقابل العقل الجمعي؟ أو إن الأمر كما ذهب إليه عبدالله العروي في كتابه مفهوم العقل؟ إذ قال: «العقل لا يورث ولا يكتشف بل يكتسب بالتجربة المتجددة، عقل الفرد هو حصيلة تجربة جماعة تتلخص في عقلية، العقل إذا عقول، كل واحد مرتبط بسلوك جماعي» ولعله اقتبسه أو استوحاه من بعض كلام ابن رشد كما نقله عنه عمر فروخ في كتابه «عبقرية العرب في العلم والفلسفة».

فهذه الأسئلة وأشباهها هي مواطن الجدل والنزاع وليس اعتبار أصل العقل، فالخلاف - إذا - واقع في داخل العقل ومراتبه وليس في خارجه، والأمر في الحقيقة ليس دائرا بين العقل ونفي العقل بل هو دائر بين العقل والعقل.

إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "

العدد 1624 - الخميس 15 فبراير 2007م الموافق 27 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً