العدد 1631 - الخميس 22 فبراير 2007م الموافق 04 صفر 1428هـ

ردّا على الكاتب سعيد الحمد: كيف نصنع الوعي؟

الشيخ حميد المبارك hameed.almubarak [at] alwasatnews.com

قرأت مقال الكاتب سعيد الحمد المنشور في صحيفة محلية بتاريخ 13فبراير/شباط2007 تحت عنوان «الشيخ حميد المبارك مقدمة مشروع جديد»، والذي دعا فيه إلى إعادة نظر جديدة في خطابنا الثقافي العربي بعمومه إذ إن ثقافة المسلمات قد فرضت قيودها وأصبح نقدها خروجا عن بيت الطاعة في المفهوم العام السائد وهو ما شكل جدارا صلبا تحطمت عليه محاولات ثقافية وفكرية حاولت وفشلت في ظل سطوة ايديولوجية التسليم والجزم المطلق.

إلا إن عنوان المقال المذكور لا يخلو - في نظري - من بعض الإثارة، وذلك لأن افتراض وجود مشروع جديد في مساحة الفكر الديني - وبالخط العريض - هو أمر من شأنه أن يثير القلق لدى فئة من الناس مع إن واقع الحال هو ان الذي أقوم به في الحقيقة لا يزيد على كونه تقارير لآراء قيلت سابقا وتداولها الفقهاء والمفكرون الدينيون قديما وحديثا ولكني أحاول طرحها بطريقة مختلفة تكون أقرب إلى لغة العصر ليسهل فهمها وتناولها للقارئ المعاصر، فلا أعتقد بأنها مقدمة لمشروع جديد - بمعناه الحقيقي - كما انها لا تشكل محاولات للخروج عن مساحة الاجتهاد الديني - بالمعنى الذي قد تنصرف إليه بعض الأذهان - وذلك لأن لها نظائر في تاريخ الفكر الديني كما مثّل الكاتب الحمد بجمال الدين ومحمد عبده والكواكبي وخير الدين التونسي.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل نتعقل نسيجا فكريا - بشريا أو يدعي التعالي على البشري - يستغني عن المسلمات؟ لا أظن أن هذا ممكنا، وذلك لأن كل منظومة فكرية مهما ادعت الحيوية والبراءة من الدوغمائية فهي قائمة لا محالة على ثوابت أساسية تكون محورا في تحققها وتحصلها وتنتفي بانتفائها، وكل تموضع اجتماعي أو سياسي أو ديني فهو ينطوي في داخله على محور يدور حوله ويختزن الرغبة في محاولة إقناع الآخرين به على أساس أنه الحق، وهذا شأن كل فكرة فعالة ترتبط بما يسمى «رهانات المعنى»، فليس المقصود بالعولمة مثلا سوى تعميم الفكر الواحد المدعوم بالقوة الغالبة، وعندما نشأت الحداثة لتقضي على المقدس الديني فقد حملت في صيرورتها تقدسا لما هو في قبال الدين، ولذلك سماها بعض النقاد «الوضعانية المتعالية» أي المتعالية على الثقافات الأخرى من جهة والمتعالية على الجانب المعنوي في الإنسان من جهة أخرى. ونلاحظ أن الثورة التنويرية في فرنسا استتبعت دينا علمانيا دوغمائيا عاجزا عن استيعاب التعددية الثقافية (قضية الحجاب في فرنسا مثلا).

وكذلك يتجه الفكر المعاصر الى الخروج عن العقل المطلق المتعالي الى العقل النسبي المتواضع (ما يسمى بالانتقال من الحداثة الى ما بعد الحداثة)، ولكن مقولة ما بعد الحداثة نفسها والداعية الى العقل اللا متعالي ستنتهي لا محالة إلى التسليم والتقديس لما بنيت عليه، ونظير هذا سيكون مصير ما يسمى بالانتقال من العصر الايديولوجي الادعائي الى العصر النقدي الابستمولوجي، بل وحتى مقولة التعددية وضرورة احترام الآخر لا يمكن أن تنفك عن تقديس ما أسست عليه، فهذا أمر تقوم عليه موضوعية الأشياء أصلا، فما إن تخلق الفكرة ويتبناها أحد من الناس وتبدأ بالاشتغال حتى تدخل في سياق البحث عن موضع لها بين الأفكار فتلج مرحلة النضال مع الأفكار النافية لها ولا مناص لها حينئذ عن التمحور حول ذاتها واستتباع إرادة القوة لإقناع الآخرين بها، وقد قيل «كلما اتسعت القدرة اتسع المعنى»، أي إن إرادة فرض المعنى تتجلى بمقدار ما يتمتع به متبني الفكرة من سلطة مادية أو معنوية وذلك ما يسمى في البرمجة اللغوية العصبية «توسيع الحدود»، فالفكرة الحية تسعى الى توسيع حدودها بمقدار ما يمتلكه متبنيها من مقومات السلطنة والقدرة.

ويستتبع ذلك أن لكل نظام بشري - سواء انتمى الى الدين أو انفصل عنه - ذروة عليا تمثل الرمز أو «المقدس» وإنما تختلف مواضع الرمزية والتقدس، فالمقدس في نظام الدولة مثلا هو شعارها وفي النظام الفكري هو المقولة أو مجموعة المقولات التي يستند اليها بناؤه، فإن كان نظاما دينيا فالمقدس فيه مجموعة مقولات دينية وإن كان نظاما ليبراليا فالمقدس فيه مجموعة مقولات ليبرالية، وحتى مذهب الشك فهو يتمحور حول الشك ذاته ويقوم على افتراضه أمرا مسلما وكأنه يبدو يناقض نفسه، فليست المشكلة في وجود مسلمات مفروغ من صحتها فإنها لا غنى عنها بل هي ضرورة التفكير أصلا وذلك لأن التفكير هو عملية انتقال وحركة بين المشكوك والمتيقن، ولكن المشكلة في نظري تكمن في إلغاء إضافة اليقين للفرد المتيقن واعتبار اليقين شيئا مطلقا لا يتقيد بخصوصية الشخص ولا ينتسب اليه وحده، ولذلك تتم محاكمة الآخر على أساس ذلك اليقين ويتوقع منه أن يتطابق معه كشرط لقبوله واحترامه ما يضطر الآخر الى تكلف التماثل ليحظى بالاحترام والقبول، وهكذا أصبحت مجتمعاتنا تشابهية بامتياز، واستتبع ذلك أن أكثر طاقاتنا الفكرية والنفسية تصرف في سبيل التحايل للتوصل الى التشابه والتجانس مع الآخرين بدل أن تصرف في الإبداع والابتكار، ولذلك فنحن اليوم مشغولون بصنع الأقنعة أكثر من انشغالنا بأي شيء آخر!

والملفت في مقال الكاتب الحمد أنه يأخذ عليّ نسق الخطوة بين الخطوتين - بحسب تعبيره - أو الأمر بين الأمرين - بحسب تعبيري - ففي رأيه ان هذا الأسلوب لا يؤهل لكسر الجدار الصلب الذي تحطمت عليه كل محاولات التجديد الفكري والثقافي، وأنا أحترم هذا الرأي جدا وأقر بأن الفقهاء والمفكرين بحاجة الى مزيد من دافعية «كسر التابو» كما يقال، ولكني مع ذلك أفضل الطرح القلق على الصراحة القاطعة، وهذا لقناعتي بأن النقد والسؤال المتواصلين هما المؤهلان فحسب لصنع الوعي الحقيقي، وقد قيل «إن الوعي ليطرق أبواب الأمم فإن وجد السؤال حرا وإلا انصرف»! والطريقة الصحيحة في التعليم هي أن نعلم الفرد كيف يفكر - وهذا ما ينقص مناهج التعليم عندنا - وليس أن نعلمه كيف يحفظ الأجوبة ويدعي العلم، فقد قال الإمام علي (ع): «من قال إني علمت فقد جهل»، ولذلك فلعلنا نستطيع القول بأننا حاليا بحاجة الى إثارة الأسئلة أكثر من حاجتنا الى مراكمة الأجوبة والوقوف عندها بذريعة إنه «ما وراء عبادان قرية»! ويعجبني هنا نقل رأي حصيف لعبدالله العروي في كتابه «مفهوم العقل» إذ قال: «لا يوجد فكر حديث وبجانبه نقد، بل الفكر الحديث كله نقد، هذه هي الثورة الكوبرنيكية، فلا يكفي الكلام عليها بل يجب الكلام بها». وأخيرا فمهما قيل في الشك الديكارتي فإني أعتبره الانطلاقة الحقيقية لرياح التنوير والنهضة الفكرية في أوروبا والتي غيرت وجه العالم الى الأبد.

إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "

العدد 1631 - الخميس 22 فبراير 2007م الموافق 04 صفر 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً