العدد 1647 - السبت 10 مارس 2007م الموافق 20 صفر 1428هـ

«نموذج الأمم المتحدة»... كيف نراه؟

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

طالب ذو الستة عشر ربيعا يعيش مع الكبار توجسهم وقلقهم اليومي لما يمر به الوطن وبكل جوارحه التي تتقاذفها الصراعات الأزلية ذات السمة الطبقية أو المذهبية أو الاثنتين معا، مثله مثل بقية كثيرين ممن هم في عمره من الطلبة والطالبات الذين يجتمع بعضهم منذ أسابيع مضت وبشكل مكثف في اللقاءات الدورية «لنموذج الأمم المتحدة البحريني المصغر، BAH MUN»، ذاك الذي يعقد سنويا في البحرين، وبمبادرة من عدة جهات أهلية ومباركة من الأمم المتحدة. ينظر البعض إزاء هذا النموذج بتوجس وشك وريبة كما يجد فيه خطرا وغسيل أدمغة يمارس على الشباب والشابات، ربما لجهة دخول أحد الجهات المنظمة له على الخط، بينما يتغاضي آخرون بإدراك عن تلك التوجسات لما يرون فيه نموذجا يفتح آفاقا وفرصا لكي يلتقي الشباب والشابات مع بعضهم بعضا ويتبادلون أثناءه الحوارات حول محصلاتهم من الإطلاع والقراءات الجادة، فضلا عن تعلم فن الحوار والاستماع إلى الآراء المختلفة والتداول بشأنها.

أشار الطالب إلى أن مشاركته في «النموذج» قد وسعت من مداركه وأفسحت له ولزملائه وزميلاته المجال لكسر حواجز الخوف والتردد من خلال الإطلاع والقراءة والنقاش وإثارة الأسئلة وتعلم الالتزام والانضباط في المواعيد والأداء، والأهم من هذا وذاك، تمثل أدوار بلدان هي في الأصل ليست أوطانهم للحديث والدفاع عنها، هم بذلك كما يفصح، يتعلمون ما يميز غيرهم عنهم، وبأنهم لا يستطيعون العيش إلا مع وجود الآخرين في هذا الكون عبر تفهم ثقافتهم وطرق عيشهم وتفكيرهم، منوها أن ذلك يحدث في خضم ما يتصارعهم وما يتلقونه أثناء تربيتهم وتنشئتهم الاجتماعية والدينية والثقافية والسياسية من أسرهم ومدارسهم وأقرانهم وما يتفاعلون معه لما يحدث في وطنهم الأم.

الطالب، اختصر لي حصيلة تجربة فترة زمنية طويلة من تجاربي في الحياة، بالقول:

- من يشارك في هذا «النموذج» أنواع عدة من الطلبة والطالبات، بعضهم يرى أنهم محرومون من فرص الاختلاط مع زميلاتهم الطالبات في المدارس، مما يجعل من فرص اللقاء بالنسبة لهم فرصا ثمينة، يطلون عبرها على عالم الفتيات اللاتي لا يلتقون بهن إلا ما ندر وفي أجواء العائلة ومن وراء السواتر والمحددات والممنوعات والقيود. البعض الآخر، اعتبر النموذج وكأنه فرصة تحصيل دراسي وفترة امتحانات لابد أن يحقق من خلالها أعلى الدرجات التي ستضاف إلى رصيده ليطمئن ألا تقل نتائجه للتخرج من الثانوية العامة عن معدل يفوق 97 في المئة، فبعضهم يشارك ملقنا نفسه وناسخا كل حرف وعبارة قرأها من الكتاب الخارجي أو سحب معلوماتها من المواقع الإلكترونية. وجد أن البعض كان مرتبكا ومترددا وتحمر وجنتاه خجلا حينما يبدأ الحديث، أما آخرون فإنهم يخوضون النقاشات بكل ثقة وسلاسة، أكد مرات عدة لي على وجود تباين ملحوظ ومفارقة شاسعة بين أداء وسلوكيات طلبة وطالبات بعض المدارس الخاصة والمدارس الحكومية، لكنه استدرك قائلا هناك ما يميز هؤلاء عن ذالكم في بعض النواحي والعكس أيضا صحيح. مشيرا إلى مشاركة فعالة ومميزة لطالبات وطلبة من مدارس المنطقة الشرقية وأخرى من مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية، وإن حالهم كما حالنا نحن البحرينيين، استطرد مندهشا: لم أتصور وبحسب انطباعي وخلفيتي بأنهم يتوافرون على الجرأة والانفتاح والأريحية، وإن ثمة تخلفا في مجتمعنا لمسه لمس اليد أثناء مشاركته في «النموذج»، استوقفته:

- ماذا تعني بالتخلف تحديدا؟ أعيد سؤالي: هل هو في طريقة اللباس، الحديث، الأكل، اللهجات؟ ماذا قصدت؟

أجابني:

- لا، لمست التخلف كما أفهمه ببساطة شديدة، من خلال حواراتنا الجانبية أثناء فترات الاستراحة، تلك التي كان يعلوا فيها الصوت الطائفي، أحدهم يسألني عن مرجعتي الدينية، وآخر عما إذا كنت ملتزما بتأدية فروضي الدينية وبحسب المقاسات الفلانية أو العلانية، آخر لا يكف عن ملاحقتي لمعرفة انتمائي الطائفي وعن أصلي وفصلي، وموقفي تجاه ما حدث من حرق إطارات في الشوارع وما استتبعها من ردود فعل أمنية! بصراحة، ترددت على مسامعي كلمتي «شيعة وسنة» بشكل مخيف لم أسمعه وسط أسرتي الصغيرة وبهذه الفجاجة، ذلك ما حدا بي للقول إن مجتمعاتنا متخلفة!. أمر آخر، الموقف تجاه المرأة، بعضهم يدعو لضربها بهدف تأديبها وضبط أخلاقها، ومنعها من الخروج من المنزل إلا بإذن مسبق من والدها ومن سياقة السيارة، وأن تكتفي بالتعلم للمرحلة الثانوية فقط وألا تعمل حينما تتزوج، وألا تتحدث مع الشباب أو الرجال الغرباء وغيرها من أمور أحسست بفطرتي أنها تعود بمجتمعنا القهقرى للوراء، نحن الذين ولجنا القرن الواحد والعشرين ونستخدم أحدث الاتصالات التقنية والإلكترونية، فالبلدان الأخرى لا يفكرون هكذا، لذا أجد في هذا مظهر من مظاهر التخلف عن تطور العصر!

أضاف الطالب الذي بهرني بقوة ملاحظته وسعة إطلاعه: مظهرنا بالبدلة الرسمية التي نُلزم بارتدائها أثناء المشاركة يمنحنا بعضا من الثقة بالنفس، بيد أن البعض لا يحبذ ارتداءها لأكثر من ساعة زمن لأنها تقيد حركته، وهم أيضا متوجسون عما إذا سيكونون ملزمين بارتدائها حينما يكبرون ويخوضون غمار الحياة العملية التي تفرض عليهم أحيانا تغيير لبسهم من الزى الشعبي أو «الكاجول»! وأصل الحديث:

- الغريب أن مدرسة البنين الحكومية الفلانية والعلانية التي يتخرج منها سنويا عشرات الطلبة المتفوقون لم يرسلوا من يمثلهم للمشاركة في هذا «النموذج» إلا طالب أو طالبين، مدرسة خاصة أخرى بعثت من يمثلها ولم يلتزم بالحضور في أغلب الجلسات، فغيرته في تالي الأيام، إحدى مدارس البنات الحكومية المعروفة بشقاوة طالباتها أرسلت عددا من الطالبات كان واضحا أنهن يعبرن بشكل فاقع عما يشاع عن تلك الشقاوة والتمرد، لكن صدقيني أن المدرسة الثانوية الحكومية «الفلانية» الأخرى للبنات، تلك التي تخرجت منها قريبتي وصديقاتها بعثت بطالباتها اللواتي يتمتعن بأريحية ومعرفة وسلوك ينم عن تحضر وانفتاح وحرص على الالتزام والانضباط في الحضور وجدية في المناقشات، أعجبتني تلكن الطالبات بحق، بل إنهن غيرن وجهة نظري في بعض المدارس الحكومية.

سألته ماذا عنك؟ حدثني عن تجربتك، ما دوافع مشاركتك؟ هل تعرفت على طلبة أو طالبات من خارج مدرستك؟

ابتسم، موافقا:

- بالطبع، بصراحة تعرفت على طالبات فقط، ارتحت للحديث معهن وتحديدا مع إحداهن.

سألته بفضول:

- هل لي معرفة ما الذي شدك إليها؟ أهي من مدرسة خاصة أم حكومية؟

- من مدرسة حكومية، ومن إحدى القرى القريبة من ضواحي العاصمة. دار نقاش مطول بيننا حول أفكارنا وخصوصا الوجودية منها! اندهشت من تعبيره، فسألته مالذي تقصده بالوجودية؟

- أقصد ما يتعلق بفكرة تشكل الكون وأصل وجود الإنسان وخلق آدام وحواء ونظرية داروين وغيرها من المواضيع ذات الصلة.

في حقيقة الأمر، إنها موضوعات كنا قد انتبهنا لها وبدأنا التساؤل والحوار فيها على أيامنا حينما كنا في السنوات الأولى والثانية من الجامعة، بيد أن قوة حراك الواقع على ما يبدو قد فرضت نفسها على جيل الشباب الجديد فشكلت له تلك القضايا منبع قلق وتوجس، ربما حتى لأطفاله. واصل حديثه الشيق معي:

- زميلتي أبدت اندهاشها واستغرابها كوننا في الأصل ننتمي لذات الطائفة «الفلانية» وأرى في عاداتنا وتقاليدنا ما يختلف عن رؤيتها التي أجدها ملتزمة ومتشددة ومتزمتة نوعا مما أكثر ما يلزم، كانت تتوقع مني أن أكون أكثر التصاقا واندفاعا واستماتة في الدفاع عن كل صغيرة وكبيرة لها علاقة بذلك الانتماء، إن موقفها يصدمني لاسيما حينما يقال بأن مجتمعنا البحريني أكثر تحضرا وتقدما قياسا بالمجتمعات الخليجية الأخرى.

قلت:

- هذا رأي الآخرين فينا، ربما لمسوا، أو شاهدوا ما لا نركز عليه كثيرا بحكم تغلغله في وجداننا وسلوكنا الاجتماعي، لكن مسألة التخلف والتحضر تبقى نسبية في مضامينها وأشكالها ومعاييرها وأوجه صرفها. هل تدرك تماما ما أقصده؟ هز لي رأسه موافقا.

واصلت الاستماع إليه، وهو يكرر لي: كنت مصدوما بما لمسته وشاهدته، خففت عنه قائلة:

- أنت لست مصدوما بقدر ما إنك للتو تكتشف عالما حقيقا بكل جماله وقبحه، عالما ستتعاطي معه منذ الآن بواقعية أكبر، وستدرك منذ الآن بأن خيوط الواقع متشابكة ومعقدة، وشكله لا يأخذ صورة واحدة وثابتة، متوقع منك أن تعمل التفكير في الكيفية التي تتكيف فيها معه وتبدأ المساهمة في عملية التغيير وتتغير. أنت لا تستطيع مواصلة العيش براحة وأمن وسلام في مجتمعك فقط بقبولك بوعي أو على مضض لكل قيمه وعاداته وتقاليده وثقافته أو برفضك لها حتى وإن وجدت فيها ما وجدت من مظاهر التخلف التي تحدثت عنها سابقا، لا يتم التغيير ما لم تتأصل في داخلك روح التغيير، ما لم تخالط الناس وتتعرف على طريقة تفكيرهم، وتتحسس همومهم وما يقلقهم وتتلمس مشاكلهم وأوجاعهم وآمالهم، التغيير لا يتم إن تحلّقت لوحدك أو مع ثلة أصحابك في عالم معزول.

كرر على مسامعي مرارا بأنه لا يجد من يتفهمه ويستوعب طريقة تفكيره واهتماماته بالمواضيع التي تشكل هاجسا له ولا يحترم عقله وهو يحاوره. قلت، وقد وبدأ القلق يساورني:

- ذلك أمرا طبيعي، أنت ابن بيئتك في الأسرة والمدرسة بكل ما تتضمنه من عناصرها القيميّة والثقافية والمادية والاجتماعية والسياسية والعقائدية، وما تمر به ليس بالضرورة هو ما يجب أن يمر به غيرك، أو يتطابق مع ما يمرون به، وبالتالي يكونون قادرين على التقاطه، لذا، عليك أن تكتشف أكثر بواطنهم، وتجد ما يجمعك معهم، هكذا تكون حصيلتك من «نموذج الأمم المتحدة»، صيدا وفيرا وثمينا!

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 1647 - السبت 10 مارس 2007م الموافق 20 صفر 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً