العدد 165 - الإثنين 17 فبراير 2003م الموافق 15 ذي الحجة 1423هـ

الحس الوطني وبيئة العمل

أفق آخر (منصور الجمري) editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

لعل كثيرا من الناس اعتقد أنه في عصر المعلومات والكمبيوتر فإن دور الانسان سيتضاءل ويتراجع إلى درجات خطيرة قد تؤدي إلى مشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية لايستطيع الانسان تحملها. إلا أن من قالوا بهذا ثبت لهم خطأ ما اعتقدوا.

ذلك لان التكنولوجيا لا تصنع الإنسان، بل ان الإنسان هو الذي صنعها لتسهيل حياته، ولا يمكن لها بذلك أن تكون إلا اداة يستخدمها من أجل سعادته إن شاء أو شقائه ان شاء ذلك ايضا.

لعل الكمبيوتر هو أفضل أداة تحليلية اخترعها الإنسان وهو قمة ماتوصل له الابداع الإنساني في السنوات الماضية. فلقد أصر فلاسفة كثيرون أن أي «مفهوم» نافع لا بد وأن يتم تفسيره رياضيا، أي يتم تحويله إلى معادلات رياضية. ثم جاء الكمبيوتر ومعه تحليل المفاهيم الى أرقام (واحد وصفر)، وهذا ما أعطانا الحياة الرقمية (اقتصاد رقمي، اتصالات رقمية، الخ).

إن المعلومات يمكن تحويلها إلى واحد وصفر، وبالتالي يمكن تحليلها، وكل شيء يمكن تحليله فانه يعتمد على أجزاء ميكانيكية يمكن تفريقها وثم تجميعها، وأن هذه الأجزاء (الرقمية أو الميكانيكية) تساوي مجموعها (بمعنى ان الكل يتكون من الأجزاء التي يتمكن الانسان من فصلها عن بعضها الآخر).

إلا أن الإنسان ليس مجموعة أرقام وليس مجموعة معلومات وليس مجموعة أحماض امينية أو جينات... الإنسان أكبر من ذلك بكثير، فالإمام علي (ع) يقول «أتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر».

إن الحياة الانسانية ليست نتيجة جمع أجزاء جسدية وتركيبها، إنها بالاضافة إلى النظام البيولوجي المادي، هي أيضا حياة ملؤها التفكير والاحساس، العقل والوجدان. لقد كان ديكارت، الفيلسوف الفرنسي، يقول: «أنا أفكر إذا أنا موجود»... إن عنوان الحياة الانسانية هو التفكير، هو العقل، هو وجهة النظر التي ينتج عنها «حس» معين.

الجميع يتحدث هذه الأيام عن عصر المعلومات، ولكن كثير منا يغفل أثر هذا العصر على نمط التفكير ونمط الإحساس والمشاعر لدى مختلف أنواع البشر.

إن توافر المعلومات عبر الحدود ودون حدود يعني أننا بحاجة لمن يسبح في محيط من المعلومات. إننا بحاجة للانسان المتعلم، العارف لعصره ومتطلبات عصره.

إننا نعيش في عصر تحركه المعرفة، وهذه المعرفة ليست الكمبيوتر، وإنما هي الانسان الذي يسيطر على الكمبيوتر ويخترق الأرقام والتحليلات التي يوفرها الكمبيوتر، وهو الإنسان الذي يخلق لنفسه تصورا معينا حول الحياة وحول دوره في هذه الحياة.

الإنسان «المتعلم» هو الوحيد القادر على القيام بدور قيادي في عالم اليوم، وهو الوحيد الذي يستطيع أن يوفر لنفسه وعياله لقمة العيش الكريمة. ولذلك فإن المؤسسة التعليمية مطالبة أن تقدم لنا المادة العلمية التي تخلق القيادات في المجتمع والمادة التي تمكن من يستلهمها في الحصول على رزقه بكرامة. لا نريد التعليم الذي يعلمنا فقط كيف نحصل على الرزق، فلربما كان الإنسان همجيا ولكنه أيضا ذكي في مجال تخصصه، ولربما كان شريرا يضر الآخرين رغم خبرته وقدرته المهنية، فمن هو الذي اخترع وسائل دمار الانسان غير الانسان نفسه؟

من أجل ذلك فإننا بحاجة للقيم التي تخلق لنا الانسان النافع لغيره، «فالخلق عيال الله وأحبكم لله أنفعكم لعياله» كما جاء في الحديث الشريف. والانسان المخلص - يسعى لخدمة ذاته (ملعون من ألقى كلّه على الناس)، ويسعى بعد ذلك لخدمة عائلته (الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله) «حديث شريف»، (من بات كالا في طلب الحلال بات مغفورا له). فالإسلام هو الذي يحثنا على الاهتمام بالجار «الجار ثم الدار».

وهكذا فإن الانسان الصالح في ديننا هو النافع لنفسه، لعياله، لجيرانه، للناس أجمعين، وهذا هو منطلق احساسنا الوطني، اننا نخدم وطننا لأننا بذلك نكون قد خدمنا أنفسنا وأهلنا وجيراننا وبقية الناس القريبين منا.

إن عالمنا المعاصر هو عالم متعدد الجوانب، متعدد في أفكاره، في سياساته، في مناهجه، وفي مهنه أيضا وهذا التعدد ليس إلا تأكيدا لطبيعة الانسان تلك الطبيعة التي أكدها القرآن الكريم: «إن سعيكم لشتى»، «قل كل يعمل على شاكلته».

إذا كانت التعددية في عالم السياسة اليوم تعني تعدد الأحزاب المتنافسة في اللعبة السياسية، فإن التعددية في عالم المال والاقتصاد هي تعدد التخصصات، وهي تعدد الاهتمامات المهنية.

إننا نعيش في بيئة «متعددة» تتعدد فيها الاختصاصات والمهارات. وفي المجتمع التعددي تستلم كل مؤسسة متخصصة مهمة محددة واحدة فقط تركز عليها وتسعى لزيادة فاعليتها تجاهها.

إن كل مؤسسة داخل مجتمعنا تختلف في بيئتها وثقافتها عن الأخرى. ولذلك نرى أن هناك المؤسسة الناجحة كما نرى المؤسسة الفاشلة. ذلك لأن لكل مؤسسة بيئة معينة تحدد اسلوب عملها، اسلوب تعاطيها مع موظفيها الخ. وبمعنى آخر لكل واحدة من هذه المؤسسات ثقافة معينة وهي الثقافة التي تحدد بيئة العمل في المؤسسة.

ويمكن تشخيص الأنواع التالية من الثقافات التي تؤطر بيئة العمل في كل مؤسسة كما يلي:

(1) البيئة السلطوية: وهذه البيئة تجدها في المؤسسات الصغيرة أو المؤسسات الدكتاتورية والتي تقل فيها الضوابط وتعتمد على مركزية فرد ما أو مركزية قوة معينة. هذه البيئة تهتم بالتنافس الشديد مع الشركات الأخرى، ويقوم المركز بتحديد الأهداف بدقة وبصورة حاسمة لا تقبل النقاش وذلك من أجل زيادة الانتاج وتقليل تكلفة ذلك الانتاج من أجل زيادة الربح التجاري.

في هذه الحالة فان المرونة قليلة والاهتمام بالوضع الخارجي للسوق يتغلب على الاهتمام بالعاملين داخل المؤسسة.

(2) البيئة البيروقراطية / الروتينية: تعتمد هذه البيئة على الضوابط والاجراءات والمعاملات التي يتطلب تخليصها المرور على محطات العمل الروتيني. وهذه البيئة لا تهتم بطول وقت الانتاج أو تخليص المعاملات، لأن أهم ما لديها هو تنفيذ متطلبات الاجراءات الروتينية.

وفي هذه البيئة يتم التركيز على الاستقرار والتحكم في العمل بغض النظر عما قد يسببه الحصول على هذا التحكم والاستقرار. هذه البيئة هي التي تسيطر مثلا على الوزارات الحكومية وعدد من المؤسسات المشابهة.

(3) البيئة المرنة / المتفتحة: وهذه البيئة تعتمد على اللامركزية وعلى الذكاء الشخصي للأفراد العاملين داخل المؤسسة، وتسعى هذه البيئة لتحقيق النمو في الموارد البشرية والأرباح من خلال النجاح في تنفيذ المهمات التي تحتاج إلى ابداع مستمر.

مثل هذه البيئة تلبي متطلبات تلك الشركات التي تحتاج لسرعة الاستجابة وتنفيذ ماتتطلبه الاسواق المتطورة، وهذا يعني أن الضوابط قليلة والاشخاص يتصرفون بحرية أكبر ومرونة تتطلبها الحاجة للابداع المستمر.

(4) البيئة الشعبية: وهذه قد لا تجدها في المؤسسات لأن همها الأول هو اراحة العاملين أو الأفراد المنضمين في المؤسسة، وهو ما قد نجده في النوادي والتجمعات الشعبية والمؤسسات الخيرية.

العوامل التي تحدد البيئة التي تتبعها مؤسسة معينة متعددة وربما أهمها:

تاريخ المؤسسة، أصحاب المؤسسة، الحجم، ونسبة ذلك الحجم داخل السوق، التكنولوجيا المستخدمة، أهداف المؤسسة، الأجواء المحيطة بالمؤسسة، الأشخاص داخل المؤسسة، الوضع السياسي والقوانين الضابطة.

الحديث عن البيئة الأفضل ليس هو ما حاولنا التطرق إليه، ذلك لأن البيئة الأفضل هي التي تناسب العوامل المذكورة أعلاه، ولكن المشكلة عندما تفرض المؤسسة بيئة معينة غير مناسبة، وهذا ما يسبب الاحباط والفشل

إقرأ أيضا لـ "أفق آخر (منصور الجمري)"

العدد 165 - الإثنين 17 فبراير 2003م الموافق 15 ذي الحجة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً