العدد 1696 - السبت 28 أبريل 2007م الموافق 10 ربيع الثاني 1428هـ

مستقبل الزراعة... والإيمان بالتخطيط الاستراتيجي والبحث العلمي (4)

وليد خليل زباري Waleed.Zubari [at] alwasatnews.com

وليد خليل زباري

وصلت المقالات الثلاثة السابقة المتعلقة بمستقبل القطاع الزراعي في دول مجلس التعاون إلى أنه في ظل المؤشرات المتهاوية الحالية لهذا القطاع والتحديات التي تواجهه فإن استمرار التنمية الزراعية في هذه الدول غير ممكن وغير مستدام، وبأنه، إذا كانت هذه الدول ترغب فعلا في استمرار هذه التنمية وانتشال القطاع الزراعي من واقعه الحالي، فإن هناك حاجة لقفزة نوعية في نمط التفكير التقليدي الحالي، وإلى وضع حلول جذرية غير تقليدية ضمن رؤية مستقبلية خليجية مشتركة تهدف إلى تحويل الزراعة في هذه الدول من قطاع هامشي يتجه للانكماش إلى قطاع يتنامى باستدامة ويرفع مساهمته في الناتج القومي المحلي، وأن يكون مصدرا لفرص عمل متزايدة تجذب الشباب الخليجي وتساهم في تنمية مستدامة للمجتمع الخليجي، وكذلك في تأمين نسبة أفضل من الأمن الغذائي ولا تتعارض مع الأمن المائي في المنطقة.

واستعرض المقال السابق بالتفصيل التحديات التي تواجه التنمية الزراعية والقطاع الزراعي في هذه الدول، والتي تشمل تحديات طبيعية ويأتي على قائمتها تحدي ندرة المياه وتناقصها باستمرار واعتماد القطاع الزراعي على مياه إحفورية غير متجددة ستنضب عاجلا أو آجلا، وتحدي محدودية الأراضي الصالحة للزراعة في معظم دول المجلس وفقر محتواها العضوي، وتحدي المناخ الزراعي غير الملائم. أما بالنسبة للتحديات ذات العلاقة بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية لدول المجلس فتتمثل في عزوف الشباب الخليجي عن العمل في القطاع الزراعي التقليدي وتحدي التنافس الحاد لواردات المنتجات الغذائية من الدول الأخرى التي تمتلك الميزة النسبية في الزراعة مع المنتجات المحلية، وعدم ضمان استمرار الدعم الحكومي والحماية المقدمين للقطاع الزراعي في المستقبل، وضعف مساهمة القطاع الزراعي في الناتج القومي المحلي بدول المجلس على رغم استحواذه على معظم المياه المحدودة أصلا في هذه الدول.

وتم طرح تقنيات الزراعة المتقدمة وأهمها تقنيات الزراعة خارج التربة (أو من دون تربة) كأحد مناطق الحل الجذري للواقع الزراعي التي يمكنها المساهمة في دعم استمرار التنمية الزراعية في دول المجلس، بسبب قدرتها على التغلب على الكثير من المعوقات الطبيعية التي تواجه القطاع الزراعي في هذه الدول.

ويعتمد هذا النمط الزراعي على توظيف التكنولوجيا الحديثة في الزراعة بهدف الوصول إلى أقصى إنتاجية ممكنة لوحدة الماء ووحدة المساحة، وحماية النبات من عوامل الطقس الضارة والقاسية وتهيئة ظروف صناعية مناسبة لنمو النبات تشمل التدفئة والتبريد والري بالتنقيط والتسميد المناسب والحماية. ويتم في هذه التقنيات تدوير المياه العذبة في دائرة مغلقة أو تقنينها في دائرة مفتوحة ما يؤدي إلى استخدام مياه الري لمرات كثيرة تصل إلى أكثر من خمس وعشرين مرة، وينتج عنها توفير عالٍ في مياه الري يصل إلى أكثر من 75 في المئة مقارنة بطرق الزراعة التقليدية سواء المحمية منها أو الحقلية. ويمكن استخدام هذه التقنية في أي موقع بغض النظر عن نوعية تربة الموقع وصلاحيتها للزراعة، إذ يتم في هذه التقنية استخدام أوساط زراعية صناعية خاملة لا تتفاعل مع النبات (مثل: الحصى، الخفان، البرليت، مخلفات نباتية...)، ويتم تعويض فقر المادة العضوية لهذا الوسط الخامل باستخدام محلول مغذي يضاف إلى مياه الري بكميات محسوبة تتناسب واحتياجات المحصول الزراعي.

لقد أثبتت هذه التقنيات الزراعية جدواها الاقتصادية في الكثير من دول العالم الجافة، كما أصبحت تمثل جزءا مهما في الزراعة العالمية وبتزايد مستمر. ويتم استخدام هذه التقنيات حاليا أساسا لزراعة الخضراوات والزهور، كما تشير الدراسات إلى أن مستقبل استخدام هذه التقنيات هو نحو إنشاء مزارع حضرية بالقرب من مراكز التجمعات السكانية في المناطق الصحراوية لسد احتياجاتها الأساسية من الغذاء. وتتركز البحوث العالمية حاليا في دراسات الجدوى التقنية والاقتصادية لاستخدام هذه التقنيات في زراعة مواد الغذاء الأساسية (القمح والرز)، والنباتات الجذرية (مثل: البطاطس) والشجرية (مثل: العنب والحمضيات) والأعلاف الخضراء، بالإضافة إلى استخدام هذه التقنيات في الزراعة المنزلية.

وبالإضافة إلى تناسب هذه التقنيات مع ظروف دول مجلس التعاون بسبب قضائها على معوقات الزراعة الطبيعية (المياه والمناخ والأراضي وضعف خصوبة التربة) في هذه الدول، فإنها تتميز كذلك بأنها تقنية غير معقدة نسبيا ويمكن تطبيقها بسهولة. إلا أن هذه التقنية تحتاج إلى إدارة متقدمة وعمالة مدربة مختلفة عن العمالة السائدة حاليا في القطاع الزراعي الخليجي، وهي أمية وغير ماهرة ومعظمها غير وطني، إذ إن العمالة المطلوبة للعمل في هذه التقنيات هي في مستوى خريجي الثانوية عامة، أو دون ذلك بقليل.

وقد يمثل هذا في دول مجلس التعاون فرصة فريدة من نوعها، إذ إن غالبية البطالة في دول المجلس هي في أغلبها من خريجي الثانوية العامة وما دون ذلك، وخصوصا في البحرين والمملكة العربية السعودية وسلطنة عمان. فعلى سبيل المثال تمثل هذه الشريحة بحسب الإحصاءات الرسمية للعام 2003 ما نسبته 89 في المئة من البطالة الكلية في مملكة البحرين. أضف إلى ذلك أن العمل في هذه التقنيات الزراعية الحديثة، وبخلاف الزراعة التقليدية، غير محصور على الذكور ويمكن للإناث العمل فيه، وخصوصا أن الإناث يمثلن نسبة عالية من البطالة الكلية، وفي البحرين تمثل نسبة الإناث 64 في المئة من البطالة الكلية و70 في المئة من البطالة على مستوى الثانوية العامة، ويمكن من خلال التدريب الملائم الذي لا تتجاوز فترته أكثر من ستة أشهر تأهيل هذه الشريحة للعمل بسهولة في تقنيات الزراعة الحديثة.

ولذلك، فإنه عند تطبيق هذه التقنيات بشكل موسع في دول المجلس فإنها يمكنها أن تكون مصدرا لفرص عمل متزايدة تساهم في تنمية مستدامة للمجتمع الخليجي وتساهم في تخفيف البطالة، ويمكنها كذلك أن تساهم في زيادة حجم المشروعات الاقتصادية الصغيرة بالمجتمع الخليجي وتضيف إلى الاقتصاد الوطني.

على رغم المميزات الكثيرة لتقنيات الزراعة الحديثة خارج التربة، وأهمها الإنتاجية المرتفعة لوحدة الماء والمساحة، واستخدام مساحات زراعية أقل وإمكان الإنتاج في أراضٍ غير قابلة للزراعة، وإنتاج بعض المحاصيل الزراعية بجودة عالية، إلا أن التجارب الحقلية ودراسات الجدوى التقنية والاقتصادية التي تم القيام بها في جامعة الخليج العربي قد أشارت إلى هناك بعض المحددات الرئيسية التي يجب التعامل معها وأخذها في الاعتبار عند إقامة المشروعات الزراعية المعتمدة على هذه التقنيات، ومن أهمها الحاجة إلى إدارة وقوى بشرية ماهرة ومدربة لضمان نجاح هذه المشروعات، والكلف الإنشائية العالية نسبيا مقارنة بالمشروعات الزراعية التقليدية بسبب تأثرها باقتصادات الحجم وكذلك الحاجة لاستيراد الكثير من مكوناتها وأجهزتها.

ويمكن التحكم والتغلب على هذين العاملين عن طريق التدخل والتخطيط الاستراتيجي الحكومي في مجال الدعم والتدريب لإنشاء ثقافة زراعية في هذه التقنيات في دول المجلس والبدء منذ الآن في اكتساب المعرفة والخبرة عن طريق تكثيف إجراء البحوث والتجارب في هذا التقنيات الزراعية الواعدة، وإنشاء مجمعات زراعية - تقنية متكاملة (Agri - technological Parks) تحتوي على مختبرات مركزية حكومية أو جامعية تخدم المزارعين ومدعومة بمراكز بحث وتدريب وإرشاد زراعي متخصصة في تقنيات هذه الزراعة المتطورة، وتشجيع إنشاء صناعات وطنية مساندة لهذه التقنيات في دول مجلس التعاون لتقليل الكلفة الإنشائية.

ويمكن القول هنا إن ظروف الوفرة المالية الحالية التي تمر بها دول المجلس، ووجود المراكز العلمية والبحثية المتخصصة في الزراعة في هذه الدول، وفي ظل مؤشرات القطاع الزراعي الحالية التي بدأت في خلق قناعة لدى الكثير من المسئولين والمتخصصين بعدم جدوى الاستمرار في المسار الحالي، كل ذلك قد يمثل نافذة لفرصة تاريخية قد لا تتكرر للنهوض بالقطاع الزراعي وتحويله من قطاع هامشي يتجه للانكماش إلى قطاع يتنامى باستدامة، ويرفع مساهمته في الناتج القومي المحلي، ويساهم في تأمين نسبة أفضل من الأمن الغذائي لهذه الدول.

إلا أن الأهم من ذلك كله هو وجود الإرادة السياسية، والإيمان بأن إتباع التخطيط الاستراتيجي والاستثمار في البحث العلمي قادرون على إيجاد الحلول للمشكلات التي تمر بها دول المجلس.

إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"

العدد 1696 - السبت 28 أبريل 2007م الموافق 10 ربيع الثاني 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً