العدد 1769 - الثلثاء 10 يوليو 2007م الموافق 24 جمادى الآخرة 1428هـ

الناس والصحافة والثقة المفقودة

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

الصحافة غذاء الناس اليومي، والناس غذاء الصحافة الدائم، ثمة علاقات عضوية متشابكة، لا يستطيع طرف أن ينفصل عن الآخر، حتى بإرادته الحرة... قانون الحاجة والاعتماد المتبادل هو الذي يحكم ويتحكم!

لكن النظرة المدققة في أحوال اليوم، تلاحظ فتورا واضحا في هذه العلاقة، نرجعها ببساطة إلى الثقة المفقودة، فكثير من ناس هذه الأيام فقد الثقة بل وفقد الحب لصحافة هذه الأيام، وكثير من الصحافة والصحافيين، صاروا لا يرتبطون بالناس ومشاغلهم، نعني ناس الغالبية الساحقة، بل أصبحوا يرتبطون بمشاغل ومشكلات ناس الطبقات العالية، وخصوصا طبقات الحكم وشرائح النظام الرسمي، والدوائر المحيطة والمستفيدة، خصوصا رجال المال والأعمال.

وفي إطار هذه الثقة المفقودة والحب الضائع، تدهورت الصدقية، ومعها انحدرت مهنة الصحافة والإعلام عندنا إلى درجة لا تخفى على أي عين بصيرة، بصرف النظر عن كل الادعاءات، وانعكس ذلك أول ما انعكس على توزيع الصحف ومدى انتشارها، وبالتالي تأثيرها، إذ يقول المطلعون على أسرار التوزيع في بلد ضخم مثل مصر، إن وعاء القراء العام الذي تنافس فيه مئات الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والشهرية، كان في حدود ثلاثة ملايين ونصف المليون، منذ منتصف التسعينات حتى العام 2005، لكنه انخفض بمعدل مليون قارئ هجروا قراءة الصحف المصرية أخيرا!

ولاشك أن هذه معلومة مفجعة، بافتراض صحة أرقامها، والمعنى الأول هو أننا شعب لا يقرأ، فماذا يمثل الوعاء، حتى لو كان خمسة ملايين قارئ، في شعب يتكون من خمسة وسبعين مليونا.

يستطيع كل من يعرف أن يبرر ذلك، بهجوم الفضائيات التلفزيونية بإبهارها وسرعة نقلها للخبر وتغطيتها المهنية العالية لما يجري، مهما بعدت مواقعه، أو أن يقول إن «الصحافة الالكترونية» عبر مواقع الانترنت قد سرقت شريحة من قراء الصحف، بفضل سقف الحرية اللامحدود الذي تتمتع به من دون رقيب أو حسيب، مع مراعاة أن قدرة التمتع بهذه الصحافة الالكترونية محدودة للغاية!

ونستطيع أن نضيف عوامل أساسية أخرى لانخفاض عدد القراء، أو مقروئية الصحف، خصوصا انتشار الأمية الأبجدية والثقافية، جنبا إلى جنب مع انخفاض القدرة الشرائية نتيجة الفقر وزيادة أسعار السلع الأساسية الأهم من الصحف!

لكننا نؤمن أن أهم أسباب تدهور توزيع الصحف وقدرتها على الانتشار والتأثير، هو عنصر افتقاد الثقة بين القارئ وصحيفته، وهو عنصر غياب حرية الرأي والصحافة بمعناها العميق، وليس بشكلها السطحي والاستثنائي... فالحرية هي روح الصحافة، ومن دونها تصبح الصحف أوراقا جافة ونشرات مجمدة، يسأم المواطن من مجرد النظر إلى صفحاتها، خصوصا إن كانت معبأة بأخبار الحكم والحكام، مدمجة بمقالات الممالأة والنفاق... ولدينا من هذا الكثير!

وأمامي وأمامكم نموذج لايزال ساخنا وحيا، نقيس عليه تعامل صحفنا مع حادث كبير، ومدى التزامنا بعنصري الحرية والصدقية، علما بأن حوادث كل يوم تكرر هذا النموذج بلا ملل، لتزيد في القراء كل الملل!

في الأسبوع الماضي، وقع حادث وفاة أشرف مروان سقوطا أوإسقاطا، من شرفة منزله في لندن، ولأنه شخصية سياسية عامة مهمة، وإن كانت غامضة، فقد كان طبيعيا أن يجتذب اهتمام الصحف والصحافيين قاطبة... فماذا قرأنا فيها ولهم...

أخبار ناقصة وتحقيقات مبتسرة وتحليلات تعتمد على النكهات وتخلو من المعلومات الموثقة، عن الشخص نفسه وحادث الموت ذاته، وانقسم المحللون والصحافيون عبر صحفهم بين من أخذ الحذر قليلا، وبين من أطلق العنان لتوجيه الاتهامات الواصلة إلى التجسس والخيانة، وفتح الجميع خزائن الأرشيف لاجترار ما سبق نشره على مدى السنوات الماضية، من دون تدقيق أو تمحيص، تفرضه القواعد الأساسية لمهنة الصحافة، وسارع البعض للاستعانة بما نشرته وتنشره الصحف الإسرائيلية، معتبرا أنه صحيح على طول الخط.

هكذا كانت حالة صحفنا على مدى يومين أو ثلاثة، ثم فجأة حدث تحول 180 درجة، من جانب الصحف والكتاب والمحللين نفسهم، لا لشيء إلا لأن رئيس الدولة، فاجأ كبار الصحافيين «رؤساء التحرير» المرافقين له، بالإدلاء بشهادته في حق الرجل، الذي وصفه بأنه وطني شريف، قدم لبلاده خدمة جليلة، ولم يكن أبدا خائنا أو جاسوسا.

نعم حدث التحول 180 درجة صباح اليوم التالي، من جانب الصحف نفسها ورؤسائها ومحلليها ومخبريها نفسهم، الذين لم يجتهدوا كما يجب في أداء مهمتهم، في البحث والتحقيق والتوفيق في نقل حقيقة الحادث للقراء... وبين الاندفاع في النشر غير الدقيق والمثير وربما العشوائي، وبين التحول المفاجئ «لاحظ من جاسوس خائن إلى وطني شريف»، وقع القراء في حيرة، زادت من فقدان الثقة وضياع الصدقية في هذه الصحافة!

وإذا جاز لنا أن نستنتج من كل هذا كما يجب إيضاحه/ نقول إن السبب الأول فيما جرى، هو غياب المعلومات الصحيحة من مصادرها السليمة، ومعها غياب الحرية الحقيقية في البحث والاستقصاء والتحري والتدقيق في المعلومات، والوصول إلى مصادرها الأساسية، كحق أساسي ليس للصحف والصحافيين وحدهم، ولكن كحق أساسي من حقوق الإنسان... تدفق المعلومات وحرية نشرها وإذاعتها.

والسبب الثاني، تكشفه وقائع ما جرى في معالجة هذا الموضوع، وخصوصا التحول المفاجئ في طريقة نشره في الصحف، فقد كانت «الكلمة الرئاسية» هي الكلمة الوحيدة والمركزية، والمعنى واضح وهو أن الرئيس هو المصدر الأول وربما الوحيد لأنباء وحقائق الحوادث الكبرى، مهما كانت خطورتها، ومهما تعددت المصادر الأخرى، لأنها تظل هامشية لا تملك شجاعة التصريح بالحقائق، بينما رئيس الدولة وحده هو المصدر والمركز والمرجع.

أما السبب الثالث، فهو أن هذا الحادث، كما الحوادث المهمة السابقة واللاحقة، كشف مدى تراجع المهنة وتدهور الحرفة الصحافية هذه الأيام، وباستثناءات قليلة تقف منفردة معزولة في بعض الصحف القومية والحزبية والخاصة والمستقلة الجديدة، فإن القارئ المتهم بعدم الاهتمام والانصراف عن القراءة، لا يكاد يجد في صدر صحيفته المفضلة خبرا متكامل الأركان مميز المعلومات، ولا يكاد يقرأ مقالا أو تحليلا مبنيا على أسس معلوماتية موضوعية تخدم رأي كاتبه وتوجهه، بل بالعكس هو يعاني العشوائية في الصوغ، والأخطاء المطبعية واللغوية والإملائية، والتسرع في ما يجب التمهل فيه أو العكس... هذا هو تراجع المهنة، المؤذي للمهنة ولقرائها عموما.

يبقى الدرس الرئيسي من معالجة الصحف لحادث وفاة شخصية مهمة وغامضة، ازداد الغموض حولها بفضل فشل صحفنا في فض أسراره الحقيقية، ونعني أن الاجتراء على حق حرمة الحياة الخاصة، وهو حق مقدس في كل القوانين والمواثيق الدولية والمحلية، أصبح شائعا إلى درجة مخيفة، يهدد أركانا أساسية في البناء الاجتماعي، كما يهدر قيما أساسية من قيم العمل الصحافي.

فإن كانت هذه المواثيق والقيم وتقاليد الصحافة، قد أتاحت حق النقد في مواجهة الجميع، فإنها حددت معايير معينة لهذا النقد، خصوصا ما يتعلق بحرمة الحياة الخاصة والشخصية، فأتاحته في مواجهة «الشخص العام»، لأن حياته العامة والخاصة ملك للمجتمع عكس المواطن العادي الذي لا يحتل منصبا رسميا مثلا.

لكن بعض ما ينشر في صحفنا هذه الأيام تعدى كل هذه الحدود، وصولا لنشر الفضائح غير الموثقة، أو الاتهامات غير المثبتة بالدلائل، أو الأخبار غير المسنودة بالمعلومات الصحيحة فضلا عن تبادل الألفاظ الجارحة، ولعل مثل هذا النشر هو السند الأول لأعداء حرية الصحافة، المتربصين بالصحافيين، وهم كثر هذه الأيام، لكي يستمروا في سياسة التشدد والقبضة الحديد والقيود والعقوبات المعادية لحرية الصحافة، التي ننشدها وندافع عن حق الشعب كله، وليس الصحف والصحافيين وحدهم، في التمتع بها، على نحو أفضل مما هو موجود حاليا.

لا نسعى إلى تبرير التجاوزات التي تقع من جانب الصحف، ولا نريد التغطية على أخطاء بعض الصحافيين، ولكننا نسعى إلى تقويم أوضاع صحافة ذات تراث قديم وتقاليد راسخة عبر قرنين من الزمان، ونريد تصويب الحالة الراهنة التي تعاني فيها مهنة الصحافة ورسالة الإعلام، تدهورا متسارعا، تكشفه لنا الحوادث والوقائع كل يوم.

ويقينا فإن العلاج الناجع ليس بفرض القيود وكبت حرية الصحافة والرأي والتعبير، كما يطالب صقور التشدد أعداء الحرية، ولكن العلاج يتم بمزيد من الحرية... والحرية التي نعنيها لن تتحقق إلا بإصلاح ديمقراطي واسع، يطلق الحريات العامة لكل المواطنين، ويشجع التعددية، ويصون حرية الصحافة، التي هي في عرفنا أم الحريات، التي يجب أن تخرج من أسر السياسة وسجون الرسميين والمتحكمين، الذين يستغلون حال الالتباس بين الصحافة والسياسة أسوأ استغلال!

وهذه قضية أخرى سنعود إليها بإذن الله.

خير الكلام:

يقول شاعر النيل حافظ إبراهيم:

رأيُ الجماعة لا تشقى البلادّ به رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1769 - الثلثاء 10 يوليو 2007م الموافق 24 جمادى الآخرة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً