العدد 1769 - الثلثاء 10 يوليو 2007م الموافق 24 جمادى الآخرة 1428هـ

لِمَ هذا الضجيج لنداء «تسقيط العَلمانيين» ؟

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

أحد الزملاء الكتاب فسر السجال المحلي الدائر هذه الأيام بشأن قضية الهجوم على العلمانية والعلمانيين وتسقيطهم الذي تمخض على خلفية الموقف من استقطاع 1 في المئة لصالح صندوق التعطل، بأنه تداخل بين الصراع الإيديولوجي والعمل السياسي المشترك، بل إنه ذهب أبعد من ذلك حينما نقل على لسان المراقبين الذين لم يكشف عن هويتهم كعادته، بأنهم يجدون فيما أثاره رئيس المجلس العلمائي الشيخ عيسى قاسم في أحد خطبه أخيرا من هجوم على العلمانيين، لا يعدو أن يكون «معركة وهمية ومفتعلة» من قبل طرفي الخلاف، مستحضرا في سياق تحليله للموقف والواقع طبيعة علاقة تحالف المعارضة السياسية الهش بين الدينيين والعلمانيين، إذ تبلغ ذروة هشاشة ذلك التحالف كما يشير حينما تلامس وتثار موضوعات ذات صبغة دينية كقانون الأحوال الشخصية أو فتوى تحريم استقطاع 1 في المئة للعاطلين عن العمل.

زميل آخر له كتب عن الموضوع نفسه، وجد أن الأطراف المختلفة تؤدلج قضايا المجتمع وتنزاح بها من عتبة النقاش التقني والفني إلى عتبة الإيديولوجي، كما رأى أن «كثرة العج واللج» في هذه القضايا والتحدث عنها وتحليلها من الأبراج العاجية في المنفى الطوعي وخلط الأمور والاعتماد على مصادر مبتسرة المعلومة، إنما تربك الوضع المربك أصلا، وتزيده تعقيدا!

وعليه، هل تكفي هذه الآراء والتلميحات من قبلهما للقبول بهذه الحقائق؟ وبالتالي إقفال باب الجدل بشأنها والانتباه لأوجه الصراع الحقيقية، باعتبار أن المعركة معركة وهمية ومفتعلة، وأن القضايا المحلية تؤدلج غصبا عن أنفها، وأنه ليس وراء الأكمة ما وراءها من معطيات وفلسفة وفكر، سواء في موقف رجال الدين أو السياسيين؟

أجل يبدو الأمر كذلك. لكن مهلا، هناك حقائق مثيرة أعمق وأشمل من ذلك، حقائق تتفجر أمامنا وتكشف عن أقنعتها على أقل تقدير ما يتعلق منها بموقف رجال الدين في كل مرة يتم التطرق فيها من بعيد أو قريب لقضية فصل الدين عن الدولة، وعلاقة رجاله وفقهائه بالسياسة وكل ما يمت بصلة وشأن وعلاقة بفتاوى التحريم والتحليل في كل شأن له من شئون الحياة، ذلك ما يمكن الكشف عنه واستيضاحه بجلاء من قراءة سريعة ومكثفة لمقدمة كتاب «الفقيه والدولة:الفكر السياسي الشيعي»، لمؤلفه فؤاد إبراهيم (طبعة أولى صادرة عن دار كنوز الأدبية في بيروت). فما الذي يكشفه ويسوغه لنا الكاتب في مقدمته؟ وما علاقته بموضوع عدم تدخل رجال الدين في شئون السياسة؟ وهل من الممكن أن لا يتدخلوا وأن لا تؤدلج قضايا الناس وتسيّس؟

التراث الفقهي الشيعي

يرى مؤلف الكتاب، أن التراث الفقهي الشيعي يحتوي على مستودع ثري وكبير للرؤى والاحكام الشرعية المتصلة بموضوع الدولة، وأن السياسة الشرعية الشيعية موضوع فقهي بدرجة أولى وتتحدد معالمها وأحكامها في المجال الفقهي، وبحسب نيابة الفقيه عن الإمام المعصوم فإن الفقيه وحده الأجدر بصوغ الموقف الشرعي من الدولة التي ستتحول بمرور الوقت إلى حقل مقفل وموقوف بصورة نهائية للفقيه. يجد أيضا، أن التشيع وهو يخوض امتحان الهوية الجماعية المستقلة كان بحاجة إلى سلاح علم الكلام، بما يدرأ عنه أخطار الخصوم ويكف عنه حجج المنافسين، فكان يبني ذاته من خلال الترتيبات الكلامية الرصينة والسبك العقدي المتقن، فقد واجه الفقيه الشيعي ومنذ انطلاقة الجماعة الشيعية بعد الغيبة محنة شرعية دولة غير الإمام التي ستكون مدار بحث وجدل في الوسط الشيعي، وهذا ما يجعل بحسب المؤلف مساحة الجدل واستمراريته من خلال انغماس كبار فقهاء وعقلاء الشيعة في هذا الموضوع الإشكالي والذي سيبقى خلفية حاضرة تثير طيفا من التساؤلات المتجددة كلما طرحت مسألة علاقة الفقيه بالدولة.

ارتباط الفقه والسياسة

يفسر الكاتب قائلا، إن ثمة ارتباط بين الفقه والسياسة، من حيث تأثير الأول في الثاني، لذلك فإن التبدلات التي يشهدها مجال الفقه تنعكس وبطريق مباشر على المجال السياسي بحيث لو أردنا معرفة سر موقف سياسي لفقيه شيعي، رجعنا إلى المجال الفقهي، وقال إننا سنلحظ عبر حركة الفقهاء أن انخراطهم في عملية استنباط القوانين الشرعية ووضع تدابير كفيلة لتعزيز قوة المذهب وحفظ مصالحة، وتاليا تحولهم - أي الفقهاء - إلى قوة رقابية فاعلة تساعد على تموضعهم كهيئة دينية تكتسب خصائص الطبقية، وسنلاحظ أن الحيز الذي يشغله الفقهاء - بفعل القوانين الشرعية التي وضعوها - في حياة الجماعة الشيعية يتعدى كونه حيزا جزئيا بل الصحيح أن الفقه الإمامي ومن خلال تطور حركة التجديد الفقهي ينتحل صفة الحاكم الشرعي الذي يدير شئون العامة وفقا لأحكام الشريعة، وهذا يعني من زاوية نظر أخرى أنه لم يتيسر لغير الفقهاء صوغ مفهوم معياري خاص للدولة من خلال تقرير سلسلة الأحكام الفقهية في موضوعات متنوعة وشاملة والتي أمكن تحويلها في مراحل تاريخية لاحقة إلى إطار قانوني لحركة المجتمع في عباداته ومعاملاته الخاصة والعامة وصولا إلى رسم صورة الدولة الدينية المنشودة.

من جهة متصلة، يضيف، وما انفك الفقيه في كل مرة يجتاز فيها تحديا مع الدولة يحوز على مكان متقدم في المساحة المتنازع عليها بين الفقيه والسلطان، وهكذا حتى يصل الفقيه بأفقه السياسي/الفقهي إلى حد استيعاب الدولة بالكامل، وإدراجها ضمن صلاحيته وحده. فالدولة التي يروم الفقيه تدشينها كما يرى المؤلف تخضع لمعايير شرعية خاصة، لا شأن لها بالدول العصبوية على أساس طبيعي أو موروث عائلي قبلي، أو قومي، أو طائفي، وإنما هي دولة تخضع لمعايير فقهية فحسب، أي لمواصفات خاصة مرصودة في المجال الفقهي، وهذه المواصفات تمنح الفقيه ولاية على الدولة التي يقيمها، وبحسب الطروحات المتأخرة فإن ولاية الفقيه تتنوع بين مطلقة شمولية وسلطانية مقيدة، وما بينهما تشعبات أخرى فرعية، ولكن في كل الاطروحات ثمة شبه إجماع على إدراج الدولة ضمن امتيازات الفقيه. ينهي الباحث حديثه قائلا، لقد باتت الحزبية الشيعية إطارا متطورا لحركة الفقيه في الميدان السياسي وأداة مستحدثة للوصول إلى الدولة بموجب مقتضيات الأحكام الشرعية الواردة في مدونات الفقيه، إذ بدونها تفقد أية جماعة سياسية صدقيتها ومشروعيتها وجماهيريتها أيضا. علل المؤلف تحليله، برغبته في الوصول إلى استكشاف الأسس التي وضعها الفقيه لتطوير سيرورته التاريخية ومن كيفية استعماله لتلك الأسس في إدارة تجاربه السلطانية في أزمنة مختلفة ومتغيرة بالنظر إلى ميراثه الفقهي، فضلا عن استجلاء نظرات الفقيه ومعاييره الشرعية في موضوع الدولة!

هل هي معركة وهمية ومفتعلة؟

بناء عليه، وبعد الإطلاع على ما سبق، وما تم استجلاءه في الكيفية التي يدير بها الفقيه ورجالات الدين شئون السياسة والفقه في المجتمع، حيث الميراث الفقهي وحيث المشروع المربك والملتبس مع مشروع الدولة بالاستحواذ عليها وتجييرها، هل يجوز حقا التغاضي عما يدور من جدل والقبول بفكرة أنها مجرد «معركة وهمية ومفتعلة» ولا أساس لها سوى السلوك غير المسئول الذي يؤدلج قضايا الناس كبيرها وصغيرها ويحيد بها عن محاورها الأصلية ومن دون أدنى شعور بالمسئولية؟ أحقا هي كذلك؟

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 1769 - الثلثاء 10 يوليو 2007م الموافق 24 جمادى الآخرة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً