العدد 1773 - السبت 14 يوليو 2007م الموافق 28 جمادى الآخرة 1428هـ

لِمَ لا نرى سنغافورة في البحرين؟

حيدر محمد haidar.mohammed [at] alwasatnews.com

يخبرني أحد الأصدقاء ممن أثق في نقله عن حوارٍ سريع جرى بين زميل له ومسئول سنغافوري التقاه في بلده، ويقول السنغافوري لصاحبه: «كثير من الوفود البحرينية تزور سنغافورة باستمرار، وتطلع على التجارب الحديثة في كل القطاعات التنموية والخدمية والاقتصادية، ولكن عندما نزور البحرين لا نرى أثرا لتلك الزيارات على الأرض».

بداية «خلونا نمشي» خطوة خطوة... فابتداء لا أعتقد أن أحدا يختلف معي في صحة ما ذهب إليه هذا المسئول السنغافوري، والدليل أن البحرين ليست سنغافورة، ولا وجه شبه بينهما سوى المساحة ربما!

لا يكاد يمر أسبوع من دون أن نستلم خبرا من إدارات العلاقات العامّة في الوزارات والمؤسسات الحكومية المختلفة يفيد بأن سعادة الوزير.... توجّه بحفظ الله إلى سنغافورة، وصحيحٌ أن اسم الوزير والوزارة يتغيران بين فاكس وآخر ولكن المشترَك الأوّل بين كل الفاكسات أن «الوزير سافر مع وفدٍ رفيع من الوزارة ؛ليطلعوا عن قرب على التجربة التنموية في سنغافورة وبحث مجالات التعاون».

المواطن في الوضع الطبيعي يفترض أن يستبشر خيرا بأن حكومته جادة في تعلّم تجارب الآخرين، ولكن في المقابل حينما يرجع الوزير من سنغافورة ومع الوفد المرافق مصحوبا بالسلامة لا يتذكر من سنغافورة إلا صوره التذكارية مع المسئولين هناك، وطبعا في بلدنا - وهذا من حسن حظ الوزراء والمسئولين - أنّ برلماننا يلاحق نانسي عجرم، لكنه ليس معنيا بمعرفة كم من المصروفات التي يهدرها أصحاب المعالي والسعادة الوزراء في سفراتهم (لا من حسيب ولا من رقيب).

ويفيد إحصاء أولي أنه ما لا يقل عن 8 وزراء (ثلث أعضاء الحكومة) زاروا سنغافورة خلال العام الأخير لأغراض مختلفة، وأنا هنا لا أحسد الوزراء على ذلك (عليهم بالعافية)، وكل هؤلاء الوزراء سرحوا ومرحوا واجتمعوا وصرّحوا وتنزهوا بل واطلعوا على التجارب في كل شيء من الحديقة إلى الحكومة المنتخبة، ولكن لا شيء يذكر بعد عودتهم.

وأنا سأسأل الوزراء - يرزقنا الله وإياهم زيارة سنغافورة - هل المشكلة التي تواجه إبداعكم وثمرة زياراتكم هو اختلاف المناخ أم شاشات العرض «البور بوينت» في سنغافورة تختلف عن البحرين، أم أنكم وجدتم أن هذا الشعب - وحاشا لله لن أقول الحكومة - ليس قادرا على فهم مشروعاتكم، وهل في أحاديثكم «شفرات» يمكن أن نوفق في فكها؟

أنا متيقن أنكم لن تجيبوا أو لا تستطيعون ذلك، وعليه فأنا سأجتهد في الإجابة نيابة عنكم ولتعذروني إنْ نسيت: البحرين ليست سنغافورة؛ لأن في سنغافورة تقطع أيدي السراق والمفسدين، والوزراء هم نخب الشعب وصفوته التي أختارها لإدارة شئونه، وفي سنغافورة لا توجد أزمة سرقة الأراضي والبحار والقفار كما ابتكرناها نحن، وفي سنغافورة لا يوجد تجنيس عشوائي، وفي سنغافورة لا توجد سلطة تمارس التمييز وتقصي الكفاءات.

في سنغافورة لم يجلس وزير أربعين عاما، وفي سنغافورة يوجد توزيعٌ عادلٌ للثروة، وفي سنغافورة لا توجد أزمة كهرباء بعد أربعين عاما من نيل الاستقلال، وفي سنغافورة يجبر الوزير أن يطأطىء رأسه ويستقيل إذا أخطأ، وأجزم وأقسم أن في سنغافورة لا يتجرأ وزير أن يزور البحرين على نفقة اقتصاده الوطني لأيام ويدفع ما يدفع ويرجع لبلده من دون مشروع ومن دون استفادة أو محاسبة، وفي سنغافورة لا يوجد وزير «رافع خشمه» عن الناس، وفي سنغافورة لا يكرم المسيء ويمنح النياشين والرتب!

وفي سنغافورة أيضا لا يوجد مرضى في المستشفيات من دون أسرّة، وفي سنغافورة لا يوجد 40 طالبا في فصل واحد، وفي سنغافورة لا توجد بيروقراطية تثقل كاهل الاقتصاد، وفي سنغافورة لا توجد عشوائية في التخطيط، وفي سنغافورة لا يوجد تنافس من المتنفذين في بيع البحار، وفي سنغافورة لا يحارب الناس في أرزاقهم بسبب «الهوامير»!

نعم، سنغافورة مساحتها أصغر من مساحة البحرين، ونعم يصل عدد سكان سنغافورة لستة أضعاف عدد سكّان البحرين، ونعم في سنغافورة لا يوجد نفط ولا غاز، ولكن توجد إرادة صادقة وحكومة منجزة، وفي سنغافورة يوجد معدل مرتفع في التنمية الاقتصادية، وفي سنغافورة يوجد تعليم متطوّر، وفي سنغافورة يوجد قانون يحتكم إليه الناس، ويسري على الجميع، وفي سنغافورة لا يستطيع وزير أن يتهرّب من دفع الرسوم والضرائب العامّة.

بلا شك أننا غلبنا سنغافورة ولكن في عدد الوزراء، فسنغافورة (المسكينة) تدار بفريق وزاري من 16 وزيرا، وفي البحرين يوجد أكثر من 50 شخصا يحمل لقب وزير يحصلون على مكافآته كاملة (مادام حيا)، وصحيح أن رواتب الوزراء في سنغافورة مرتفعة جدا، وتعد ربما الأرفع في آسيا، ولكنهم لجأوا إلى هذه الخطوة ؛لأن عددا غير قليل من الوزراء من ذوي المؤهلات والكفاءات العالية انتقلوا للقطاع الخاص للعمل بمزايا أفضل!

سأورد لكم مثالا بسيطا فقط لكي تشعروا لماذا نحن لسنا كسنغافورة ولا نستطيع أن نكون كسنغافورة، فتنقل الصحف هناك أن الرئيس السنغافوري عقد مع الكونغرس جلسة عند منتصف الليل لمناقشة انتكاسة صحية تعرضت لها امرأة واحدة تدعى «تيري شيافو»، بسبب إهمال طبي.

وتنقل الصحف أيضا أن وزيرا هناك بقي في السجن لسنوات لتورطه في صفقة فساد مع أحد أصدقائه! بينما في البحرين يكشف تقرير ديوان الرقابة المالية (وهو السقف الذي تريده الدولة أن يظهر للسطح) مئات التجاوزات المالية والإدارية والمنهجية في مئات المشروعات، ولكن لم نرَ وزيرا استقال ولا مسئولا أحيل إلى النيابة العامة، ولم يحرك أحد ساكنا في مجلس النواب ولا في مجلس الشورى وكأن لم يكن، وهذا يعني ببساطة أن ثقافة المحاسبة التي هي شرطٌ أساسي للتطوّر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي غائبة، ومن دون هذه الثقافة لن يخطوَ المجتمع خطوة نوعية نحو الأمام.

ليس فقط أن في سنغافورة لا يوجد احتكار للسلطة والثروة، وليس فقط لا توجد فجوة كبيرة بين الطبقات الاجتماعية، بل لا يوجد احتكارٌ للمعرفة أيضا، فقد أعلن رئيس الوزراء هناك في خطوة تعتبر الأولى والأكثر جرأة في العالم عن تحويل سنغافورة بكاملها إلى منطقة لاسلكية عملاقة، في محاولة لتقديم نموذج يحتذى به في كل أنحاء العالم، ولفتح المجال أمام مواطنيها لدخول عالم المعرفة الرقمي من أوسع أبوابه!

ويكشف رئيس الوزراء السنغافوري أنه بحلول النصف الثاني من العام الجاري سيتمكن سكّان سنغافورة من تصفح شبكة الإنترنت مجانا عبر خطوط اتصال فائقة السرعة، إذ إن كل ما يحتاج إليه أي شخص هو كمبيوتر محمول (لابتوب مماثل للذي يطالب به النواب البحرينيون!).

ونتمنى من نوابنا الأفاضل عندما يرجعون من عطلتهم الطويلة والسعيدة سالمين غانمين وبعد أن حصلوا على «لابتوباتهم» أن يطلبوا من الوزراء الثمانية تقارير تفصيلية عن زياراتهم، بل وكل الزيارات المماثلة، ولتناقش اللجان النوعية في المجلس المنتخب نتائج هذه الزيارات وحتى كلفتها على المال العام، ليكرس البرلمان سلطة الشعب واقعا لا مجازا.

حقيقة، لا أريد أن أثبّط عزيمة وزرائنا الذين زاروا سنغافورة، بل أقول هنيئا لكل مَنْ زاروها، وهنيئا لكل أولئك الذين سيزورونها، ولكن أتمنى أن أكون قد وفقت في البوح عما يعجز عن ذكره أصحاب السعادة الذين زوار سنغافورة السابقون منهم واللاحقون.

وعندما نعرض الأزمات الطافية على السطح أصلا، لا نستهدف التشكيك فيما تحقق من منجزات على مستوى التنمية البشرية، وهي ليست بالقليلة، ولا يضيرني ألا أفتخر بأي تقدير للبحرين في المحافل الدولية، ولكن بسبب كل تلك الأزمات الكبرى التي نعانيها مفتوحة لم تكن البحرين سنغافورة سابقا، واليوم هي مؤكدا ليست سنغافورة ولن تكون سنغافورة في ذات يوم قريب إذا لم تحدث مراجعة ومحاسبة جريئة وقاسية، وحتى نصل لذلك اليوم على الحكومة أن تبادر لحل أزماتنا!

إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"

العدد 1773 - السبت 14 يوليو 2007م الموافق 28 جمادى الآخرة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً