العدد 1797 - الثلثاء 07 أغسطس 2007م الموافق 23 رجب 1428هـ

المعونة الأميركية والتمييز بين المسلمين والمسيحيين!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

هذا موضوع حساس يحتاج إلى تحقيق دقيق، إن لم يكن من جانب الدولة فمن جانب المجتمع المصري، بمنظماته ومؤسساته، بمسلميه ومسيحييه.

موضوع حساس لأنه يتعلق بأساليب إنفاق الجزء الرئيسي من المعونة الاقتصادية الموجهة لمصر، والتي يجرى خفضها سنويا، فصارت الآن نحو 400 مليون دولار، بعد أن كانت في التسعينات 815 مليون دولار، لمن توجه، ومن الذي ينفرد باختيار المشروعات التي تمولها، وعلى أي أساس يتم اختيار هذه المشروعات وأصحابها... على أساس سياسي، أم فكري، أم عقائدي وديني؟!

لقد تعرضنا في المقال السابق لاختراق المعونة الأميركية للمنظومة الثلاثية لصناعة العقل وتوجيه الرأي، وهي منظومة التعليم والإعلام والثقافة، وقدمنا ما رأيناه محاولة أميركية، لتغيير العقول والأفهام والرؤى والأفكار، وبالتالي المواقف والسياسات في مجتمعنا.

اليوم نطرق اختراقا آخر له حساسيته المفرطة، ولذلك طالبنا منذ البدء بضرورة التحقيق والتدقيق فيه، ونعنى أن المعونة الأميركية أصبحت سلاحا لشق المجتمع المصري ولتغذية «الفتنة الطائفية» ولإثارة الشحناء بين المسلمين والمسيحيين، من خلال التمييز بينهم والتفرقة على أساس ديني، عند تمويل المشروعات بالمعونة الأميركية هذه!

والأمر جلل يستدعي التساؤل، لماذا تتورط السياسة الأميركية بهذا الشكل العلني الخطير في أدق علاقة بين مسلمي مصر ومسيحييها، وصولا إلى تمييز بعض المسيحيين للاستفادة من هذه المعونة دون أقرأنهم ومواطنيهم من المسلمين، وهل هذه دعوة جديدة للكراهية تغطي بها أميركا كراهية شعوب المنطقة لمجمل سياساتها وحروبها وانحيازاتها؟!

أمامي في هذا الأمر واقعتان.

الواقعة الأولى، حدثت في منتصف التسعينات، حينما جاءتني باحثة جامعية، تستشيرني في رسالتها للماجستير، وكانت حول تأثير المعونة الأميركية على مصر، ولفت نظري أن الباحثة ذكرت أن أهداف المعونة الأميركية وأساليب إنفاق أموالها، تثير مؤشرات سلبية في مصر، واتفقت معها، لكن ما صدمني حقا، ذكرها أن هيئة المعونة الأميركية في سبيل تحقيق أهدافها، تفضل تمويل مشروعات صغيرة للشباب لخلق شريحة جديدة من الرأسماليين الجدد، يكبرون يوما بعد يوم، وقد وجدت ذلك مفهوما في إطار ما تفعله واشنطن لتغيير المجتمع المصري ودفعه نحو السوق الحرة واندماجه في العولمة.

الذي صدمني هو ما ذكرته الباحثة، من أن هيئة المعونة الأميركية تفضل اختيار الشباب المسيحيين لتشجيعهم في هذا المجال، وخصوصا أولئك الذين ينتمون لعائلات مسيحية مصرية قديمة ومعروفة... ولأن الأمر خطير، خصوصا في فترة التسعينات حين كانت الهجمات الإرهابية والصدامات الطائفية ملتهبة، فقد نصحتها بالتحقق من هذه المعلومات، والأفضل عدم ذكرها تفصيلا، حتى لا تساعد في تأجيج الفتنة الملتهبة، وتتهم بالتعصب والتحريض ضد المسيحيين!

لكنها فاجأتني بأمرين، أولا أخرجت من حقيبتها ورقة، سجلت فيها 84 اسما لشباب مسيحيين استفادوا من هذه المعونة، وهم أضعاف من استفادوا من المسلمين، وثانيا قالت لي لا تقلق فلن اتهم بالتعصب وإثارة المشاعر ضد هؤلاء الشبان المسيحيين، لسبب بسيط هو أني مسيحية!

الواقعة الثانية، مرت سنوات على الواقعة الأولى، سقطت من الذاكرة بحكم عوامل التعرية، حين تذكرتها من جديد قبل أيام قلائل، حين قرأت في صحيفة «المصري اليوم» - 10 يوليو/ تموز 2007، تقريرا منشورا على نحو نصف صفحة، بعنوان «وثيقة أميركية: اتجاه لتركيز المعونة على أماكن تجمع الأقباط في مصر».

والتقرير منسوب إلى وكالة أنباء «أميركا إن أرابيك»، تقول فيه إنها حصلت على نص وثيقة مقدمة للكونغرس يقر فيها مسئول بارز بهيئة المعونة الأميركية، بأن واشنطن غيرت في السنوات الأخيرة، هيكل المعونة المدنية - الاقتصادية لمصر، لتركز بشكل غير مسبوق على المناطق السكنية التي يمثل الأقباط غالبية فيها، وعلى ما سمته الوثيقة تقوية منظمات مسيحية غير حكومية.

يضيف التقرير المنشور، إن «جيمس اركوندر» مساعد مدير هيئة المعونة قدم هذه الوثيقة أمام اللجنة الفرعية لشئون الشرق الأوسط، وأنها تضم عشر صفحات وصدرت بتاريخ 17 مايو/ أيار 2006، وجرى تحديثهاأخيرا.

صدمتني المعلومات الواردة في الوثيقة المنشورة في صحيفة مصرية سيارة، وتوقعت أن تحدث دويا، وأن تنتفض الدولة والمؤسسات المصرية لتكذيبها، أو أن يأتي التكذيب من أميركا، ولكن شيئا لم يحدث وظللت حريصا لأيام مضت على التدقيق في كل ما ينشر في الصحف المصرية، بتنويعاتها الثلاث، القومية والحزبية والخاصة، لعلني أجد تعليقا أو تكذيبا أو تأكيدا، فلم أجد ولم اسمع حسا ولا خبرا.

ساعتها قلت لنفسي إن الوثيقة تحتمل الصحة والدقة، أكثر مما تحتمل شيئا آخر، ولذلك لجأ الجميع إلى مداراة الأمر رهانا على أن الناس في بلادي عادة ما تنسى.

الآن وجب علينا طرح هذه الواقعة الخطيرة على الرأي العام، لنكشف له كيف تلعب السياسة الأميركية وبرامج معوناتها، لعبا خطيرا في أدق علاقات ووشائج المجتمع المصري حين تفرق في الإنفاق، بين من هو مسلم ومن هو مسيحي، بين تجمع قبطي وآخر، وهي تفرقة لن تنتج إلا مزيدا من التمييز ومزيدا من الصراع والشحناء والصدام، ولدينا منه ما يكفي... فهل يكفي الصمت والمداراة انتظارا لكارثة، أم على الدولة المصرية سرعة التحقيق، وحسم التمييز والاستقطاب، وإيقاف التدهور واصطناع الصدام؟!

تقول الوثيقة نصا «إن مشروعات هيئة المعونة الأميركية في مجالات الصحة والتعليم والبنية التحتية وتنمية المجتمع المدني، تعمل الآن في كل منطقة ذات نسبة سكانية قبطية كبيرة خصوصا في جنوب مصر والقاهرة والإسكندرية... وتضيف في مكان آخر... أعادت المعونة الأميركية تأهيل وتوسيع محطات المياه في 18 قرية من ذات النسبة السكانية القبطية الكبيرة، وقد زادت نسبة التمويل للقرى ذات النسبة القبطية الكبيرة، لبرامج معالجة المياه وحدها، على 200 مليون دولار خلال السنوات الخمس الماضية...».

اقتطفنا من الوثيقة معلومات أخرى، تقول إن هيئة المعونة قدمت 12 مليون دولارا لتجديد عشرات من الأماكن القبطية المقدسة في مصر، مثل الكنيسة المعلقة وكنيسة مارجرجس وكنيسة سرجيوس، وتقول المعلومات أيضا إن هيئة المعونة قدمت 2.2 مليون دولار منحة لأربعين منظمة قبطية غير حكومية خلال السنوات الست الماضية، من دون علم الحكومة المصرية.

ثم تضيف الوثيقة المنشورة، إن المعونة الأميركية تقدم دعما مباشرا للمنظمات المسيحية التي تعمل في مجال تنمية المحليات وتقوية قادة هذا المجتمع عن طريق التعليم والقيادة والتدريب على المهارات... إلخ.

هذا إذا كلام منشور في صحيفة معروفة بدقة مصادرها، منقول أو منسوب لوثيقة رسمية أميركية قدمت للكونغرس، لتشرح التوجهات الحالية والجديدة لهيئة المعونة الأميركية في مصر... كلام لم يكذبه أحد من قريب أو بعيد، فهو لذلك يميل إلى أنه صحيح ودقيق، وكان علينا أن نتعامل معه بهذا المعيار.

وربما تدافع هيئة المعونة الأميركية عن نفسها، بتمييز المسيحيين عن المسلمين، بأن المسيحيين مهمشون ومضطهدون، كما تقول دوائر أميركية كثيرة، وكما تدع] منظمات أقباط المهجر، غير أن الحقيقة أن التهميش قائم، لكنه لا يفرق بين مصري وآخر على أساس الدين، وأنظر إلى ملايين الفقراء وغالبيتهم الساحقة بحكم عدد السكان من المسلمين.

مثل هذه الادعاءات لا تصلح مبررا لهذا التمييز الأميركي في أدق شئون حياتنا، بل إن الأصل هو أن تكف أميركا وسياساتها عن اختراق المجتمع المصري، بإغراءات المال وضغوط السياسة وإغواء السلطة المنتظرة.

وهذه سياسات نراها معادية لمصر، ولغيرها من الدول التي تتكرر فيها هذه النماذج، ونراها جزءا رئيسيا من سياسة «الفوضى الخلاقة» الهادفة إلى تقسيم بلادنا على أسس طائفية ودينية وعرقية، بإثارة الفتن وتأجيج المشاعر وإلهاب الأزمات، بينما حكوماتنا لا تعمل بما فيه الكفاية، لقطع الطريق ومعالجة الأزمات وتحقيق المساواة على أساس المواطنة، وإقامة دولة القانون والمؤسسات التي تطلق الحريات للجميع من دون تمييز.

نعم... هذه سياسات أميركية معادية، تحتاج لمواجهة حاسمة ولوقفة جريئة تعرف الرفض، وتستطيع أن تقول لا، هذه سياسات ووقائع تستحق التحقيق على أعلى مستوى.

فإن لم تقم الدولة المصرية بمثل هذا التحقيق فإن على منظمات المجتمع المدني الوطنية حقا أن تفعل الآن قبل الغد، دفاعا عن حرية الوطن ووحدة شعبه!

خير الكلام: يقول عباس العقاد:

لا تحسدن غنيا في تنعمه

قد يكثر المال مقرونا به الكدر

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1797 - الثلثاء 07 أغسطس 2007م الموافق 23 رجب 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً