العدد 1824 - الإثنين 03 سبتمبر 2007م الموافق 20 شعبان 1428هـ

الموت في زمن التغيير

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

بعد عشر سنوات من مقتل الأميرة البريطانية ديانا سبنسر، أقامت لها العائلة الأسبوع الماضي حفل تأبين وتذكر، الحضور قليل إلا أن المستوى رفيع، وقد أشرف على الحفل ونظمه ابناها اللذان تركتهما صغارا خبرا التيتم وهما على مقاعد الدراسة وليم وهاري. لقد تحول مقتل ديانا إلى أسطورة في تحري خلفية الموت من جهة الذي مازال قائما فما أن ينتهي ملف حتى يفتح ملف تحقيق آخر، وفي الصناعة التي خلفها الموت، فاصبحت صور ومقتنيات ومنتجات كلها تباع باسم الأميرة الراحلة.

حياة وموت ديانا الأميرة له أكثر من معنى، له المعنى المباشر الذي يرتبط بمشكلات زواجيه قد تحدث في أية أسرة، وله معنى أعمق بكثير من ذلك، يتلخص في قبول أو رفض التغيير الذي يحدث في المجتمعات وما يتركه من ضحايا، ديانا أحد أهم أيقونات التغير في وقتنا.

عصر ديانا كان عصر تغيير حاد، اجتماعي واقتصادي وسياسي في بريطانيا، فقد شاءت في سنواتها الأولى في عهد مارغريت ثاتشر، المرأة الحديدية، كما كانت توصف. وقد قامت تلك المرأة الحديدية بتغيير شامل في بناء المجتمع البريطاني، عن طريق تغيير هيكله الاقتصادي في الداخل والتعامل مع الأزمات في الخارج بحزم. في هذه البيئة تربت ديانا المرأة الشعبية بكل ما تتصف به السبعينات والثمانينات من القرن الماضي من تغيير هزالمجتمع البريطاني من جذوره. الأميرة الصغيرة الجميلة بنت جيلها التي دخلت بالزواج إلى أسرة قديمة تحكم بريطانيا، أو قل تشرف على حكم بريطانيا، لها تقاليد متجذرة وطقوس لا يمكن أن تتجاوز في كل مناحي الحياة تقريبا.

هنا بدأ الصراع الخفي أولا بين أميرة قادمة من الشعب محبة للتغيير مجبولة عليه، محبوبة من قطاع شعبي كبير، وبين تقاليد صارمة تمنع حتى إبداء المشاعر الإنسانية العادية. وتصاعد الصراع بين الفكرتين أو الموقفين من الحياة، موقف يسير مع التغيير، ويُقبل على الحياة كما هي، مسايرة لكل مظاهر التغيير في المجتمع البريطاني، وأخرى تصر على اتباع التقاليد في الملبس والمأكل والابتسام وحتى المشي. إلا أن هذا الصراع ما لبث أن تفاقم إلى حد المأساة.

في المقابل فإن التغيير أخذ مجراه في المجتمع البريطاني، وقد كان حزب العمال الذي أبعدته السيدة ثاتشر طويلا عن الحكم يدخل في صراعات بين نخبه ويجادل في إما الاستمرار على النهج القديم، نهج (الاشتراكية الفابية) وهي هجين من الفكر الاشتراكي والتطبيق الرأسمالي، الذي أنتج القطاع العام العاجز بكل بيروقراطيته العسيرة، وما تلاه من اضطرابات عمالية شلت الاقتصاد البريطاني وأقعدته، وبين قبول التغيير ومسايرة العصر.

إلا أن المرحلة كانت مرحلة التغيير، وهكذا عندما وصل طوني بلير بكل نشاطه إلى زعامة الحزب في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي، عرف أنه من دون تغيير لن يتسنى لحزب العمال الوصول إلى مقاعد الحكم، فقرر بين عدد قليل من مريديه أن يغامر بالتغيير الجذري، وكانت معركة تسميها الأدبيات البريطانية السياسية الحديثة معركة الفقرة الرابعة، وهي فقرة في دستور حزب العمال البريطاني يشار إليها بالفقرة المقدسة، والتي تقول بارتباط تام وعضوي بين نقابات العمال واتحادها من جهة وبين حزب العمال من جهة أخرى. هذا الارتباط الذي لم يجرؤ زعيم عمالي على الاقتراب من التفكير في التخلي عنه.

نقابات العمال كانت قوية وأساسية في العمل السياسي البريطاني حتى النصف الأول من القرن العشرين الفائت، إلا أن إصلاحات مارغريت ثاتشر، وتغير جذري في طبيعة العمل والإنتاج العالمي عموما والبريطاني على وجه الخصوص، قد غيرت من النمط الإنتاجي القديم المعتمد على المصانع وورش العمل، لقد أصبح الاقتصاد هو اقتصاد خدمات ومعرفة وتقنية وبالتالي تغيرت العلاقات الاجتماعية وطرق الحياة. هنا كانت قيادات حزب العمال السابقة لا تريد أن تمس الفقرة المقدسة، وهي الارتباط الكامل بنقابات العمال، تعرف طوني بلير على ما يجب أن يسايره في التغيير، وفي أول مؤتمر حزبي عام بعد تسلمه رئاسة الحزب أعلن للجميع الطلاق الكامل من الفقرة الرابعة في دستور الحزب، وسمى حزبه الجديد حزب العمال الجديد، هكذا فإن هذا الإقدام على ما يحتاجه التغيير والسير فيه بشجاعة، جعل من حزب العمال هو الحزب الحاكم لفترة تزيد اليوم على ثلاث دورات انتخابية تبلغ أكثر من اثنتي عشر سنة، ومازال في جعبته الكثير.

السبب الرئيسي هنا للنجاح مسايرة التغيير الاقتصادي والاجتماعي بكل ما يترتب عليه من مواقف اجتماعية جسدت نفسها على أرض الواقع، وهي اليوم كمثال وجود أعضاء في مجلس اللوردات البريطاني التقليدي، من ذوي البشرة السمراء، وآخرين من غير معتنقي الديانة المسيحية.

التغيير في المجتمعات ليس سهلا ولا يسيرا، وقد ذم التقوقع في الماضي قرآننا الكريم إذا قال مستهجنا قبول الماضي كما هو «إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون» (الزخرف:22)... مقاومة التغيير هي حقيقة إنسانية ثابتة، فالأصل هنا هو الثبات والتقليد، إلا أن الحقيقة الأخرى تقول لنا إن التغيير هو سنة من سنن الحياة، فمن وجد في نفسه أو في مجتمعه القدرة على قبول التغيير سار في درب الحياة متكيفا مع الجديد، أما من قرر أنه يملك الحقيقة المطلقة التي ورثها من السابقين تخلف واندثر، يجري ذلك على الأفراد كما يجري على المجتمعات أيضا.

حياة وموت ديانا الأميرة هو صراع مع التغيير، لم تستطع ابنة الشعب البسيطة أن تتكيف مع طقوس المؤسسة الصامتة ذات التقاليد الراسخة، وكان الصراع الخفي أولا ثم الظاهر. وتدافعت الأمور تصاعدا، كما هو متوقع أن تتدافع في مثل هذا الصراع، حتى قادت إلى فشل مدو لما سمي بزواج العصر، زواج أمير ويلز وولي العهد البريطاني بالأميرة الشعبية، فكان الطلاق.

وحتى بعد الطلاق لم تتوقف الأميرة المكلومة من محاولات الانتقام شعورا منها أو في اللاشعور، فبدأت بنفسها أولا وأصيبت بأنواع من الأمراض القسرية، منها رفض تلقائي للطعام من معدتها، ثم طفقت في مرحلة لاحقة بالوصول إلى وسائل الإعلام وسرد قصص فشلها الكثيرة على محطات التلفاز تشكو وتتألم، ثم انتقلت في مرحلة لاحقة إلى انتقام علني بمصاحبة المشهورين من الرجال، حتى أدى إلى موتها المأسوي قبل عشر سنوات وبضعة أيام من اليوم في العاصمة الفرنسية.

قراءة قصة الأميرة ديانا في حدودها الضيقة الشخصية هي قراءة مبتسرة، أما قراءتها في بيئتها السياسية، فتقدم لنا شكلا من الصراع بين التقليد والتجديد. انتهى أو قرب إلى الانتهاء بوجود ملكة بريطانيا وزوجها وكل العائلة المالكة وكبار القوم في حفل التذكر العشري لمغادرة ديانا إلى رفيقها الأعلى، إنه ضمنا قبول ولو متأخر بالتغيير.

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1824 - الإثنين 03 سبتمبر 2007م الموافق 20 شعبان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً