العدد 1836 - السبت 15 سبتمبر 2007م الموافق 03 رمضان 1428هـ

حتى لا يتحمل المواطن نتائج هذا الخبط الرسمي

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

التصريحات المتناقضة لمسئولين رسميين، تدلل على وجود تخبط وعدم وضوح في الرؤية حيال التوّجه الاقتصادي الجديد، فقبل فترة حين اشتعلت نيران الأسعار ولسعت المواطن بشدّة، انبرى بعض المسئولين مبررا عدم التدخل الحكومي حيال طفرات خطيرة في أسعار سلع حيوية، وليست ترفيهية وكمالية، تخص فئة قليلة من أصحاب الثروات الطائلة حتى يمكن السكوت عنها، مرجعا السبب وراء عدم التدخل لإنقاذ المواطن من لهب الأسعار، كون الدولة تبنت اقتصاد السوق الحر الذي يترك السوق حرة من دون تدخل. غير أن المفاجأة تأتي بعد أن يحترق نصف المواطن، فينبري أحد المسئولين الرسميين الكبار، منددا بزيادة الأسعار وبتلاعب بعض التجار، وبعده بأيام، يتوعد رئيس نيابة قضايا الوزارات والجهات العامة حسين البوعلي بإحالة جميع المخالفين والمتلاعبين بالأسعار إلى المحاكمات الجنائية («الوسط»، 11-9-2007).

لا شك أن موقف هذا المسئول، ومن بعده رئيس النيابة أعادت شيئا من الطمأنينة للمواطنين. إلا أن تلك التصريحات المتناقضة، بجانب مواقف أخرى كثيرة، تؤشر على تخبط وغبش في الأفق، حجب الرؤية الرسمية بخصوص حدود اقتصاد السوق الحر الذي تسعى الدولة لتبنيه، فمنذ ما بعد أزمة 1929 التي ضربت الاقتصاد الأميركي وجعلته ينهار، فتبعه في الانهيار، اقتصاد الكثير من الدول الرأسمالية الكبيرة آنذاك، بالضبط، كما تتساقط الأوتاد (التي تشبه الزجاجات) واحدة تلو الأخرى بضربة كرة البولينج الثقيلة التي لم تخطئ مكانها الصحيح، منذ ذلك الحين لم يعد اقتصاد السوق الحر أبيض أو أسود، إذ تم تبني ليبرالية مختلفة عن تلك التي سادت في القرن التاسع عشر، والتي تمنع من تدخل الدولة بالمطلق، فتم منذ الأربعينات إقرار تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي، وتصدت الدولة لتوفير الخدمات الحيوية للشعب، والضمان الاجتماعي للأفراد.وقامت الدولة في الغرب المتقدم بفرض ضرائب على الدخل من أجل تعديل الميزان الاجتماعي، وتخفيف آثار حدّة التفاوت الفاحش الذي ينتج بشكل حتمي إذا ما تُركت السوق من دون تدخل مطلقا.

وبعد الحرب العالمية الثانية أيضا، نالت الكثير من دول العالم الثالث استقلالها السياسي، غير أن التخلف الاقتصادي ترك آثاره السلبية على مختلف الخدمات، الصحية والتعليمية وغيرهما، حينها ظهر مصطلح التنمية، فوجدت فيه الدول المستقلة آنذاك ضالتها وأملها في التخلص من حالة التخلف إلى حالة التقدم والرقي. ولأن مسألة التقدم نسبية، امتدت الأنظار واشرأبت الأعناق إلى العالم الغربي المتقدم، واعتباره مرجعا يتم من خلاله قياس مدى التقدم على سلم التنمية، فتسابقت الدول النامية مقتفية أثر الدول الرأسمالية المتقدمة، طمعا في اللحاق بأذيالها، وملامسة المستوى الاقتصادي المتقدم التي كانت تنعم به، فتبنت اقتصادا يكون للدولة فيه دور مؤثر من حيث توفير الخدمات، وذلك رعاية للعدالة الاجتماعية، وانسجاما مع ليبرالية جون كينز وفكرة تحقيق مجتمع الرفاه.

وبعد طول هجعة، عاد الهاجس القديم، فعادت معه أشباح الفقر والبطالة التي سادت المجتمعات الرأسمالية في الكثير من الفترات، وذلك في ظل توجه جديد يطالب بالعودة نحو الأسلوب القديم من عدم تدخل الدولة حتى في الخدمات، أو ما أطلق عليه الحد الأدنى لدور الدولة، ويدعو الدول النامية لاقتفاء الأثر نفسه، وهو توجّه معادٍ لأفكار جون كينز التي سادت منذ أربعينات القرن الماضي في العالم الغربي. وفي البحرين يكرر بعض المسئولين باعتماد القطاع الخاص خيارا لتحقيق التنمية الاقتصادية، بمعنى تبني اقتصاد السوق الحر، وهذا يعني الحيلولة دون تدخل الدولة في السوق، ولكن ليس معلوما من خلال الخبط السابق في التصريحات، إلى أي درجة تسعى الدولة لتبني هذا الخيار؟ هل هو فكر جون كينز، أم الأسلوب القديم الذي يُطلق عليه حاليا الليبرالية الاقتصادية الجديدة؟ وما هي ضوابط ذلك؟ وقبل كل شيء... ما هي دستوريته؟ فكما يحدد الدستور ملامح النظام السياسي، فهو يحدد أيضا ملامح النظام الاقتصادي، وحدود الإطار الذي يحق للدولة التحرك في نطاقه، والآليات المعتمدة لتحقيق التنمية، فالدستور لا يقبل أي أسلوب تنموي، لأن الدستور في أي بلد، قائم في محاوره الرئيسية، على القاعدة الفكرية للشعب، وعلى سبيل المثال، فإن الاشتراكية الشيوعية تجعل من الدولة المتحكم الرئيسي في تنمية الإنتاج، ولا تقبل أن يقوم بهذا الدور القطاع الخاص، أما الرأسمالية والتي محورها الحرية الفردية كقاعدة فكرية في الدول الغربية المتقدمة، لا تقبل تنمية الإنتاج بأي أسلوب وآلية كانت، بل تمنع الدولة من ممارسة الإنتاج، وتقصره على القطاع الخاص، وتعتبر تدخل الدولة استثناء.

وفي دستور المملكة، - كما يرى كاتب السطور - سعة للأخذ بأي أسلوب، الدولة أو القطاع الخاص. وفيما يتعلق ببعض الخدمات كالصحة والتعليم، فإن مواد الدستور توحي بأن القطاع العام هو الأصل، فكلما احتاجت مادة من الدستور لذكر القطاع الخاص، بدأت بكلمة «يجوز» وكأنما القطاع الخاص فيما يتعلق بهذه الأنشطة يُعد استثناء، فمثلا جاءت المادة مادة (7 -ج) يجوز للأفراد والهيئات إنشاء المدارس والجامعات الخاصة بإشراف من الدولة، ووفقا للقانون. وفي المادة (8) بند- ب «يجوز للأفراد والهيئات إنشاء مستشفيات أو مستوصفات أو دُور علاج بإشراف من الدولة، ووفقا للقانون». أما الدولة، فقد سارعت دون أن تسترد أنفاسها نحو خصخصة جزء من قطاع الخدمات، وضغطت الخدمات الأخرى كالصحة والتعليم الجامعي بعد أن فتحت المجال أمام الكثير من الجامعات الأجنبية لفتح فروع لها في البلد.

إن أي فشل، سيتلظي بناره السواد الأعظم من المواطنين الذين لا حول لهم ولا قوة، والتصريحات المتناقضة فيما يتعلق بالتدخل في الأسعار وغيرها من مواقف وقرارات، لا تؤشر على وضوح في الرؤية، لهذا يستوجب على الدولة التعريف بالتوجه الاقتصادي الجديد الذي يكرر بعض المسئولين تبنيه، كإطار يُؤمل عليه تحقيق التنمية، حتى يمكن المشاركة في الحكم على هذا التوّجه، وإمكان نجاحه وفقا لظروف البلد.

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1836 - السبت 15 سبتمبر 2007م الموافق 03 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً