العدد 1845 - الإثنين 24 سبتمبر 2007م الموافق 12 رمضان 1428هـ

الملك فاروق وبقية المضحكات التلفزيونية

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

في كل رمضان ينشغل الجمهور العربي من المحيط إلى الخليج بمسلسلات رمضان التلفزيونية، ولأن محطات التلفزيون أصبحت أكثر من الهم على القلب، فإن المشاهد أصبح هدفا لنيران ثقيلة من الغواية نتيجة المسلسلات المتدفقة، حتى أضحى المراقب على اعتقاد جازم أن الفن العربي التلفزيوني لا ينتعش إلا في رمضان ولو لم يكن رمضان لبارت سلعتهم. أبدأ بالمسلسلات الخليجية وهي في الغالب، لا تخرج عن الأفكار المعهودة المليئة بالصراخ والعويل وفي أحيان كثيرة بالضرب خصوصا للأنثى المغلوبة على أمرها، أو بلبس الملابس المختلفة شكلا وموضوعا، أو التلفظ بغريب الكلمات وأكثرها تجريحا، وهي تشترك مع كثير من المسلسلات العربية بفقدها للنص المبني على فكرة تفيد المشاهد.

النقص في النصوص، هو نقص مزدوج في الثقافة العامة، أولا لكاتب النص نفسه، وثانيا للقائمين على قبول مثل هذه النصوص لتتحول إلى شخوص تتحرك أمام المشاهد وتفرض قيمها على سطح العقول التي تسارع بالاقتناع بما تفعل وتقول، وهي شكوى رمضانية دائمة. بل أصبح موسم رمضان في الفضاء العربي التلفزيوني، وكأنه الموسم الوحيد الذي تمثل من أجله الأعمال التلفزيونية وتُنتج الدراما.

قد يختلف بعض الشيء مسلسل الملك فاروق الذي يبدو حتى الآن على الأقل أنه عولج معالجة درامية معقولة، ليس في النص ولكن أيضا في الديكور والبيئة الخلفية للعمل. إلا أن هذا العمل يقع بشكل ما في خطأ إرضاء الجمهور بالعزف على مقولات رددت كثيرا في سرد مثل هذه الحوادث، فقراءة التاريخ من دون اتخاذ موقف مسبق بالتمجيد أو التنديد لم تحدث بعد في أعمالنا الفنية.

الملك فاروق وسيرته مهمة لمنطقتنا لأنه يؤسس إلى تغيير جذري سياسي في المنطقة ككل سارت عليه بلاد عربية كثيرة، فقد أسس انقلاب عسكري في مصر إلى سلسلة من الانقلابات العسكرية التي في الغالب استنزفت طاقة العرب، وعطلت من نموهم الشامل .

وقد قيل الكثير عن حياة فاروق وتصرفاته وموقفه السياسي والاجتماعي، هناك كتب وأفلام ومدونات كثيرة تتناول عصر الملك فاروق وما جبل به ذلك الوقت من تغيرات في مصر وتأثيرها بعد ذلك على المحيط العربي.

فاروق لم يترجل عن الحكم في يوم 23 يوليو/ تموز العام 1952، ذلك التاريخ شهد خروج الملك في يخت المحروسة من مصر إلى أوروبا، إلا أن التاريخ الحقيقي لعزل الملك فاروق كان قبل ذلك بعشر سنوات تقريبا، وهو في التاريخ المصري المشهور والمعروف، أي يوم الرابع من فبراير/ شباط 1942 إذ أجبرت القوة الانجليزية المحتلة الملك على الاختيار بين أمرين، أما أن يعين مصطفى النحاس باشا رئيسا للوزراء أو أن يتنازل (بالقوة القاهرة) عن العرش. في ذلك التاريخ دق أول إسفين لفقد فاروق عرشه.

التاريخ لا يرحم كما أنه لا يقبل العودة إليه بافتراضات، إلا أنه لو فرض أن دافع فاروق عن حقه كملك، ورفض تسليم النحاس الحكم، ومن ثم تم إخراجه من السلطة بالقوة البريطانية المحتلة، فمن يدري ربما أصبح مثيلا للمرحوم محمد الخامس في المغرب الذي أخرجه الفرنسيون عنوة من حكمه، ولكنه عاد بطلا مبجلا في عيون شعبه. لو فعل ذلك الملك فاروق لربما تغيرت أمور كثيرة في شرقنا العربي.

حوادث الرابع من فبراير 1942 كانت الفاصل في التاريخ المصري ومن ثم العربي الحديث، لقد سقط مثالان في عيون الجمهور المصري، فاروق الملك الذي فضل أن يبقى في الحكم خوفا من حراب الانجليز، ومصطفى النحاس الذي قبل أن يعين رئيس وزراء من خلال حراب القوات المحتلة. هذا الأمر قد حقق العد العكسي لكل التجربة الليبرالية المصرية التي ترعرعت في ما بين فترة الحربين العالميتين.

تجربة الديمقراطية والأكثرية التي يمثلها حزب الوفد آنذاك وعلى رئيسه مصطفى النحاس باشا، وتجربة الملكية الدستورية التي يمثلها الملك فاروق. كليهما في عيون النخبة المصرية أضحوا فاقدي الصلاحية. الفترة بين فبراير 1942 وبين يوليو 1952 وهي تقارب العشر سنوات، شهدت تهيئة الأرض السياسية في مصر للتغير الجذري. فلا الأحزاب عادت محترمة إذ قرر حزب الغالبية أن يتسلم الحكم تحت حراب المحتل وبرغبة عارمة منه، ولا الملكية الدستورية التي قررت أن تضحي بالكرامة الوطنية في سبيل الاحتفاظ بالعرش المزعزع. تلك اللحظة التاريخية من العام 1942 كانت الإسفين الأول الذي دق في نعش التجربة الليبرالية المصرية الحديثة، وهي تقدم لنا درسا بالغ الأهمية يقول إن الأنظمة تسقط قبل أن تتلاشى فعلا بوقت طويل.

انتهى فاروق بعدها إلى حقيقة، أن الحاكم المطلق هو المندوب السامي في قصر الدوبارة، المقر الرسمي، فتفرغ هو لمتابعة مغامراته الصغيرة، السياسية والاجتماعية في آن، وانتهى حزب الغالبية بعد أن طلب رضا المندوب السامي في كل ما يقوم به من عمل سياسي. وتنبه الجمهور في 23 يوليو 1952 يوم إعلان انقلاب الجيش على واقع كان لا يحتاج إلا إلى بضعة ضباط ليغيروا المشهد السياسي من دون رجعة، ومن دون خطط طويلة الأجل للدولة التي ورثوها أو المجتمع الذي أصبح فاقدا للثقة في الحرس القديم، وتم التغيير إلى درجة أنه لم يتظاهر أحد احتجاجا، لقد سقط الحكم كثمرة يانعة.

قصة الانقلاب المصري على فاروق هي قصة كلاسيكية في كل التاريخ الإنساني، فالحوادث الكبرى لا تحدث فجأة بل يؤسس لها قبل ذلك بفترة زمنية طويلة يخالها من يعيشها أنها (طبيعية) وهي في الحقيقة تنخر في مؤسسات الدولة حتى تصبح هشيما يذر في الفضاء من دون تأثير. وهكذا استقبلت جماهيرغفيرة ثلة الضباط وكان على رأسهم آنذاك محمد نجيب بالورود والزغاريد، لم يبك على الماضي إلا قلة معزولة، فأصبحت (الثورة) المصرية بعد أيام قليلة مقبولة من جمهور عريض خرج مؤيدا مزغردا لها في الشوارع.

القصة لا تنتهي هناك، فبغير انقلاب عسكري سابق في سورية لم يكن عصر الانقلابات العسكرية العربية قد بدأ، إلا أن بالانقلاب المصري أسس لانقلابات كرت سبحتها الانقلابات بقيادة العسكرية العربية في طول بلاد العرب وعرضها، إلا من رحم ربي. فكانت سلسلة الانقلابات من ليبيا إلى اليمن مرورا بالسودان إلى موريتانيا إلى بغداد ومن ثم الكثير من الدول العربية، أسس لها وقاد إليها الانقلاب الناجح في القاهرة.

بعد أكثر من خمسين عاما يأتي المسلسل التلفزيوني (الملك فاروق) ليعيد بعض الضوء على تلك الحقبة ،حقبة يخضع فيها الملك فؤاد (والد فاروق) لرأي رئيس وزرائه (سعد باشا) أنه كملك دستوري لا يحق له تعيين أعضاء مجلس الشيوخ، هو قرار يختص به بمجلس الوزراء المنتخب، ويخضع فؤاد لذلك الرأي بعد طلب المشورة من المستشار الدستوري، الذي كان بلجيكيا بالمناسبة، وقد قرر أن الدستور المصري آنذاك، المصمم على غرار الدستور البلجيكي لا يتيح للملك التصرف إلا من خلال الوزارة الشرعية القائمة، فهو (يملك ولا يحكم).

بعد خمسين عاما من تجربة (الحكم الثوري) الذي لم يكتف بخسارة الأوطان بل وفقد البشر يرى المراقب أن (الشعارات) التي تطلق لإلهاب مشاعر الجمهور المُضلل، تؤسس للخسارة المطلقة، وكثيرا ما يرى مطلقو الشعارات أن النكوص عن تلك الشعارات يؤدي إلى تآكل المكانة السياسية لهم فيزيدوا إطعام جماهيرهم شعارات أخرى، لأن القاعدة الجماهيرية غيب عقلها. المأساة أن الإنسان العاقل يؤمن بأن الأمور يحكم عليها بنتائجها، أما الإنسان السياسي فهو يؤمن أن الأمور يحكم عليها متى ما حققت مصالحه في الشعبية، وهكذا كان.

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1845 - الإثنين 24 سبتمبر 2007م الموافق 12 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً