العدد 1850 - السبت 29 سبتمبر 2007م الموافق 17 رمضان 1428هـ

الشعب برئ من الفساد والحل بيد الحكومة

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

الدولة الصالحة، الشعب الصالح، القانون العادل... شروط ثلاثة، توفرها ضمانة لنجاح أي مشروع تنموي. ومكافحة الفساد المالي أحد أهم المشروعات التي تمهد الطريق لتحقيق تنمية حقيقية وناجحة.الخلل في مشكلة الفساد المالي في بلدنا واضح وأسبابه مكشوفة، ومعروف مَنْ يقوم بممارسته ليل نهار من دون خوف أو وجل من أنْ يطاله حكم القانون. قبل أشهر، كنتُ على الحدود بين دولتين عربيتين، وأضطر السائق لدفع مبلغ من المال من أجل تسهيل مروره. سألته عن السبب وراء قيام مثل هؤلاء الضباط بهذه الممارسات، فأجاب: لأنّ رواتبهم متدنية.أينما تذهب، عليك دائما الاحتفاظ بمبلغ من المال (فكة)، حتى تجري معاملتك بانسيابية وسهولة. حتى محطة الحافلات التي تنقلك للبلد المجاور، يسألك الموظف بكلّ صراحة أنْ تدفع له مبلغا صغيرا بدلا من البهدلة بفك وتفتيش حقيبة أغراضك... غير أنّ الفساد المالي في بلدنا ليس ظاهرة منتشرة على مستوى الشعب، إنما مقتصرة على كبار المسئولين في بعض مؤسسات الدولة والشركات الكبيرة.عموم الشعب لا ينخرطون في هكذا معاملات، فالموظف الرسمي البسيط صاحب الراتب المتدني والمغلول بالديون ينهي أعمال الناس من دون أن ينتظر شيئا، بعكس مثل تلك الدولة العربية، حيث المطالبة بالرشا منتشرة في كل مكان.

المشكلة هنا ليست في توفر التشريعات الملائمة بقدر ما هي مشكلة فرضه وتنفيذه. القانون يتم فرضه بانتقائية، ولهذا قد تستمر أخبار كشف السرّاق الصغار تترى لفترة قبل أنْ تتلاشى وتُنسى، كالرئيس التنفيذي لإحدى الشركات حين اختلس 37 ألف دينار لا تساوي قيمة أرض صغيرة، ولكن ستبقى الأحلام التي حلم بها عن سبق إصرار وتعمّد، الزميل عقيل ميرزا بتاريخ 26-9-2007 مجرد أضغاث أحلام، إذ لن يتم تقديم مَنْ سرق نفس المبلغ ولكن بزيادة ثلاثة أصفار عليه (أي 37 مليون دينار) وربما حتى صفرين. وحتى هؤلاء السارقون الصغار، فإنّ الأوضاع السائدة في مؤسسات الدولة سبب رئيسي لإغرائهم بالسرقة. ما تعلمه الفرد في البيت والمدرسة، وما فرضه العرف الاجتماعي من نبذ لخائن الأمانة وسارق المال، سيضعف دوره وينتهي بالتدريج، وذلك كلّه يحصل عندما يلج الفرد بعض مؤسسات الدولة والشركات الكبيرة، فيعيش أجواء فساد كبار الموظفين والمسئولين، بل لا يستطيع أنْ يعيش من دون الانسجام مع فسادهم، وتلبية متطلباتهم، والتغطية على ممارساتهم. فيفقد كلّ ما تعلمه وغُرس في فؤاده في البيت والمدرسة والجامعة.

الشفافية المفتقدة تعقّد المسألة أكثر، وتضعف وسائل الضغط الشعبية، ففضلا عن صعوبة التعرّف على مختلسي الأملاك المنقولة من نقد ومختلف أنواع المال، فحتى الأملاك العامّة غير المنقولة كأراضي اليابسة والبحر، والتي يشاهدها الكل، لا نعرف كيف تصبح بين عشيّة وضحاها في ملك فلان وعلان. فمثلا، البحر يتم دفنه منذ سنوات، والصحف تتحدّث عن مشروعات تُقام على الدفان بمئات الملايين، ولا أحد يعلم من دفن، ولصالح مَنْ، وما هو دور الدولة في توزيع البحر بعد أنْ نفذت منها أراضي البر.

الدولة ذات الحكم الصالح، ينخفض فيها الفساد المالي، حتى لو كانت دولة تعتمد مبادئ مادية بعيدة بدرجة ما عن الدين، ومؤشر النزاهة ذات المستوى العالي الذي تتمتع به الدول الغربية بحسب ما يصدرعن منظمة الشفافية، دليل على ذلك. المسألة تتعلق، بجانب وجود تشريعات صارمة، تطبيق عادل ونزيه لهذه التشريعات، حينها سيختفي الفساد بصورة كبيرة جدا، ولن يصبح ظاهرة في بلد صغير مثل البحرين. وتطبيق القانون بيد الحكومة، خصوصا في ظل اختلال في التوازن بين سلطتها وسلطة الشعب لصالح الأولى، ولهذا فإنّ أي فشل وأي تراجع، وكذلك أي إحراز لتقدم ونجاح، يعود بالدرجة الأولى لجدية الحكومة.

حين ساءت حال الدولة وتردت الخزينة العامّة في عصر الخليفة العباسي هارون الرشيد، كتب أبو يوسف الفقيه الحنفي المعروف رسالة متكاملة لهارون من أجل إصلاح حال الخراج - القطاع الزراعي - الذي يعد النشاط الاقتصادي المحوري آنذاك ومصدر الخزينة الرئيسي. المتأمل في هذه الرسالة الإصلاحية الطويلة يتضح جليا له أن الدولة بما تمثله من كبار الرسميين والمسئولين، كان لها دورها الرئيسي في تردي الحال الاقتصادية في البلد، وإنّ الإصلاح يأتي من خلال إرادة سياسية تتمثل في رأس الدولة مباشرة. ومن هذا المنطلق، فإنّ نجاح دعوة ولي العهد، مقرونة بتصديه الشخصي لمشكلة الفساد، والبدء بالمفسدين من كبار موظفي الدولة، فإذا صلح الكبار سيصلح الأصغر منهم والأقل درجة. إلا أنّ المطلوب على المدى البعيد، تفعيل دور الشعب في محاربة المفسدين في الأرض، ومن دون تعديلات دستورية، تُعلي من دور الشعب قبال تغوّل الحكومة، فسيبقى حلم محاربة الفساد المالي مجرد حلم يراود الحالمين.

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1850 - السبت 29 سبتمبر 2007م الموافق 17 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً