العدد 1860 - الثلثاء 09 أكتوبر 2007م الموافق 27 رمضان 1428هـ

البعد الاقتصادي في الاستبداد السياسي

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

في بداية خلافته، واجه الإمام علي (ع) مصاعب جمّة، أثارها بعض كبار القوم، خشية منهم على المصالح التي كانوا يتميزون بها، فطلب بعض أصحاب الإمام علي (ع) منه، استخدام ما تحت يده من بيت المال من أجل أن يستميل رقاب الرجال عن طريق سلوك التمييز في العطاء بينهم، لأن كبار القوم لا يقبلون مساواتهم بعامة الناس. غير أن الإمام رفض ذلك، يقول ابن قتيبة الدينوري في كتابه الإمامة والسياسة: «... ثم قام رجال من أصحاب علي فقالوا: يا أمير المؤمنين اعط هؤلاء هذه الأموال، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي، ممن يتخوف خلافه على الناس وفراقه. وإنما قالوا له: هذا الذي كان معاوية يصنعه بمن أتاه، وإنما عامة الناس همهم الدنيا، ولها يسعون، وفيها يكدحون. فأعط هؤلاء الأشراف، فإذا استقام لك ما تريد عدت إلى أحسن ما كنت عليه من القسم، فقال علي: أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه من الإسلام؟ فو الله لا أفعل ذلك ما لاح في السماء نجم، والله لو كان لهم مال لسويت بينهم، فكيف وإنما هي أموالكم».

والتمييز في العطاء والمناصب، هو البداية حتى يتمكن الجهاز الحاكم من الاستبداد بالقرار السياسي والثروة، إذ يسكت عن استبدادهم الكبار من علماء دين ورؤساء عشائر، ويضعف الصغار عن قيادة مقاومة ضد الاستبداد والظلم، وبهذا الأسلوب، يتمكن النظام من تحييد الكثيرين من مقارعة استبداده، ويختلف الناس عليه بين راض بل متعصّب له ومبرر لظلمه وتمييزه، وبين ساخط وناقم عليه، وآخر قد آثر السكوت على الكلام طلبا للراحة والدعة... وهكذا لا يتوحدون ضده، لأنه لم يعمهم بالظلم حتى يعموه بالسخط. وبذلك يستحوذ على ثمار جهد الناس بعد أن يُسكت كبارهم الذين أشركهم في تناول هذه الثمار، أو يرضي طائفة على حساب طائفة أخرى، وفيما بعد، إذا أمن المعارضة، يقلّص دائرة أولئك الذين ميّزهم، حرصا منه على امتلاك أكبر ما يسعه من الثروة.

طبيعي أن الجهاز السياسي الحاكم لا يمكنه القيام بالاستبداد ما لم يكن يمتلك تحت يده المال والثروة. وأثبتت التجارب البشرية خطورة المبالغة في دور الدولة في الحياة الاقتصادية، إذ أن الإمكانات التي تقع تحت يد الدولة، تصبح مطمح لأصحاب المناصب الكبيرة، وهذه الامكانات المادية يتم التوسل بها لأهداف ومطامع شخصية تقود لحصول حالة من الاستبداد السياسي، يتبعه استبداد بالثروة والقدرات المادية التي يُعاد توظيفها من أجل مزيد من الاستبداد بالقرار والتحكم في مصائر البلاد والعباد، فتصبح الثروات المادية وسيلة لمزيد من بسط السيطرة والاستئثار.

وعندما تتدخل الدولة بدرجة كبيرة في الحياة الاقتصادية، وتضع في يدها أرزاق الناس ومعايشهم، حينها يُفتقد التوازن بين سلطة الدولة وسلطة المجتمع لصالح الأولى، ويفقد أفراد المجتمع إرادتهم في الوقوف أمام استبداد الجهاز السياسي الحاكم، وذلك خوفا على معايشهم وأرزاقهم التي تتحكم فيها الدولة، وقديما قيل: قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق. ومن الطبيعي أن تكون النتائج المستقبلية سلبية على كل الحياة، لأن الشعب يكون مقصيا عن المشاركة في القرار، عاجزا عن تقويم الحكم.

والحكم، لم يتحول بعد الرسول الكريم صلى الله عليه وآله إلى ملك عضوض، ولم يتكرس ذلك إلا بتدخل الحكّام المباشر في أرزاق العلماء والأئمة، ما شكل ضغطا قويا، أضعف استقلال العلماء وقدرتهم على مواجهة الاستبداد بالثروة والحكم، وقلّص قدرتهم على تقليل الأخطاء. وساء الأمر حين أصبح التعليم الديني تابعا للدولة. ومع أن الدولة آنذاك افتتحت المدارس بداية الأمر لأهداف نبيلة، إلاّ أن وضعها مرتهنة بيد الحكّام قد أفسد العلم وأهدافه، وقيّد موقف أكثر العلماء تجاه الجهاز السياسي الحاكم (الدولة)، إذ إن تعيين العالم للتدريس في المدرسة بيد الدولة، وهي التي تجري الرواتب والأجور، حتى أصبحت حياتهم بعد مدّة، متعلقة برواتب السلطان. ولهذا «كان مصير بعض العلماء الذين لا يلبون للسلطة مطالبها ولا يسيرون مع أهوائها، أن تحل عليهم لعنة الحكام ومحنهم، ومن بينها العزل من الوظيفة (أي وظيفة التدريس)». وبلغ استخفاف الحكام بالعلماء لحد أن يُطلب من بعضهم إباحة الأنبذة، يقول محمد منير سعد الدين: «أما الشيخ إسماعيل بن إبراهيم (ت 629هـ - 1231م) الفقيه الحنفي الذي كان يدرس في مدرسة طرخان، بعث إليه الملك المعظم عيسى صاحب دمشق يقول: أفت بإباحة الأنبذة وما يُعمل من ماء النوادر»... ولما رفض، غضب عليه وأخرجه من مدرسة طرخان». (سعد الدين، محمد منير: دراسات في تاريخ التربية عند المسلمين، ص 226).

وحين نقول إن النفط بقدر ما هو نعمة، أصبح نقمة، كون الدولة وضعت يدها على هذه الثروة، وأصبحت لا تعبأ من حيث مشكلة المال بأبناء الشعب. ففي دولة الكويت، كان للتجار شأن في القرار السياسي، وبنفوذهم تم إنشاء مجلس نيابي، غير أن اكتشاف النفط، ووضع الدولة يدها على هذا القطاع بالكامل، جعلها في غنى عن ما يقدمه التجار من تمويل، وبسبب فائض مدخول النفط، ضيّق الجهاز الحاكم على دور الشعب حتى كاد أن يلغيه عندما تم حل مجلس النواب قبل غزو الكويت من قبل صدام حسين سنة 1990، لدرجة الإعلان عن النية بإنشاء مجلس يتم تعيين جزء من أعضائه. لقد تمت عرقلة المسيرة الديمقراطية عدّة مرات، إلى أن انفرجت العلاقة بين الشعب والحكم بعد الخلاص من الغزو العراقي.

وفي البحرين، كانت الإيرادات النفطية تشكل 78.8 في المئة من الإيرادات العامة للدولة وذلك في سنة 1970 حين كان سعر البرميل يتراوح بين 2- 3 دولا للبرميل. وأثناء حرب رمضان/ أكتوبر 1973 ارتفع سعر النفط الخام بمقدار 400 في المئة إلى 7 دولارات للبرميل الواحد نتيجة استخدام النفط سلاحا اقتصاديا، وبعد أن استقرت الأوضاع استقر سعر النفط إلى 5 دولارات للبرميل. فاذا كان 78 في المئة من الموازنة من إيرادات النفط في الحالة الأولى، فكيف بعد أن تضاعف سعره؟ بهذا فبعد عامين فقط من تدشين المجلس النيابي سنة 1973، تم تعليق العمل بالدستور وتعطيل المجلس، وليس بمستبعد أن تكون الثروة الهاطلة فجأة سببا لتعطيل المجلس، وذلك ليتسنى التصرف فيها من دون محاسبة ومراقبة من قبل نوّاب الشعب. وما زالت الدولة تضع يدها على نسبة كبيرة من إجمالي الدخل المحلي نتيجة سيطرتها على النفط، وما لم تتخلى عن هذه السيطرة، بأي أسلوب كان، ويتم إعادة توزيع ثروة النفط بما يصب في صالح الدولة والمواطنين، فإن الأمل بالإصلاح السياسي الحقيقي، سيظل حلما من أحلام اليقظة. فبعد 37 عاما، ما زالت الدولة تعتمد بالنسبة نفسها - تقريبا - التي كانت تعتمدها سنة 1970 من حيث ما يشكله النفط من مجمل الإيرادات العامة للموازنة، أي أكثر من 77 في المئة، من دون الحاجة للقطاع الخاص.

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1860 - الثلثاء 09 أكتوبر 2007م الموافق 27 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً