العدد 188 - الأربعاء 12 مارس 2003م الموافق 08 محرم 1424هـ

الأزمة العراقية تعيد النظر في النظامين الدولي والعربي

بشير موسى نافع comments [at] alwasatnews.com

.

باتت الحرب على العراق حتمية ووشيكة. عندما تندلع هذه الحرب، وبغض النظر عما إذا كانت قصيرة وغير دموية أو خلاف ذلك، فستكون واحدة من أكثر حروب العصر الحديث شذوذا وغرابة. هذه حرب لن تحمل دلالات ومعاني الحرب، فلا العراق ولا عدة دول مجتمعة مثله تستطيع الوقوف أمام الآلة العسكرية الأميركية. هذه في الحقيقة حرب من طرف واحد. وهي حرب تعارضها كل شعوب العالم تقريبا، بما في ذلك نصف الرأي العام الأميركي، كما تعارضها غالبية دول العالم، بما في ذلك معظم الدول المجاورة للعراق، والتي يفترض أنها الأكثر عرضة لتهديده المفترض. وهي حرب يعرف الجميع أن أهدافها الحقيقية لا تنطبق بأي شكل من الأشكال مع أهدافها المعلنة. ولكن الأهم من ذلك كله أنها حرب لن تتمتع على الأرجح بغطاء شرعي دولي.

عارضت فرنسا وروسيا والصين (إضافة إلى ألمانيا) مشروع الحرب على العراق منذ البداية، وهي ثلاث من بين خمس دول دائمة العضوية في مجلس الأمن. وقد حاولت هذه الدول، بقيادة فرنسا - من خلال التعديلات التي أجرتها على مشروع القرار 1441 ودعمها المتواصل لعمل المفتشين الدوليين في العراق - ان تجنب العراق والعالم الحرب وعواقبها والنتائج المترتبة على السيطرة الأميركية المباشرة على العراق وعلى أهم مناطق انتاج النفط في الكرة الأرضية. ولكن هذه الدول وصلت أخيرا الى قناعة بأنها لن تستطيع ربما منع الحرب على كل الأحوال، بعد ان بدا التصميم الأميركي على الحرب واضحا بغض النظر عن الموقف الأممي. ولذلك فقد تحول هدف الكتلة الأممية المعارضة للحرب الى وضعها خارج نطاق الحرب الشرعية الدولية. وهذا هو على الغالب جوهر الموقف الفرنسي الحالي. إن كانت الولايات المتحدة قد عقدت العزم على الحرب والسيطرة على العراق، فليكن مشروع السيطرة الأميركية عاريا عن الغطاء الدولي وعن الشرعية الدولية الممثلة في مجلس الأمن والأمم المتحدة. فرنسا، التي تقود هذا التوجه، باتت ترى ان الحرب اصبحت حتمية، وقد خططت سياستها بالتالي على أساس فتح الطريق لإعادة النظر في النظام الدولي من خلال حجب الشرعية الدولية عن مشروع الحرب ووضع الولايات المتحدة وحلفائها في مواجهة غالبية أممية معارضة.

ما غاب عن معظم المراقبين لجلسة مجلس الأمن الماراثونية في السابع من هذا الشهر ان وزير الخارجية الفرنسي قد كرر في بيانه جملة واحدة مرتين. قال دوفيلبان ان فرنسا لن تسمح بتمرير قرار في مجلس الأمن يشرع لحرب فورية على العراق. والواضح ان مشروع القرار الأنلجو - إسباني الذي يجري إعداده وتقديمه إلى مجلس الأمن يتضمن إعطاء مهلة للعراق لا تتجاوز السابع عشر من هذا الشهر، بمعنى ان على العراق الاستجابة لعدد من المسائل العالقة المعقدة فيما يتعلق بنزع سلاحه، والتعامل مع الجوانب العملية لهذه المسائل، خلال أيام قليلة فقط وإلا أصبح عرضة لحرب تعلن باسم الشرعية الدولية. بغض النظر عن الحكم على الطريقة التي تعامل بها العراق مع الأزمة منذ ربيع العام الماضي. فإن مهلة الأيام العشرة مستحيلة بكل المقاييس، ولذا فمن المرجح ان فرنسا ستمنع صدور مثل هذا القرار عن مجلس الأمن، سواء من خلال العمل على ألا يحصل مشروع القرار على الأصوات التسعة الضرورية أو من خلال استخدام حق النقض الفيتو.

لقد شكلت فرنسا وألمانيا طوال أربعين عاما من الحرب الباردة ركيزتين رئيسيتين للتحالف الغربي. وعلى رغم ان فرنسا نزعت منذ عصر ديغول الى توكيد قرارها المستقل عن القرار الأميركي الى حد الانسحاب من اللجنة العسكرية لحلف الناتو لعدة سنوات، ولكن أحدا في موسكو لم يخطئ أبدا في حسبان الجانب الذي تقف فيه باريس. وحتى بعد انهيار الكتلة الشيوعية ونهاية الحرب الباردة، شاركت فرنسا بدور بارز في التحالف الدولي الذي قاده بوش الأب ضد العراق في 1991. اليوم، تتصدر فرنسا حالا عالمية رسمية وشعبية واسعة الأثر ضد الحرب، بل ويساهم الموقف الفرنسي مساهمة فعالة في تعزيز هذه الحال والتعبير عنها. هذا الموقف الفرنسي، الذي أخذ في التبلور منذ شهرين على الأقل، سيترك شقوقا عميقة في التحالف الغربي، حتى وان لم تستخدم فرنسا حق الفيتو في مجلس الأمن. أما ان استخدمت هذا الحق لإفشال المسعى الأميركي لاستصدار قرار جديد من المجلس فإن باريس ستكون قد اختارت وضع مسافة ملحوظة وكافية بينها وبين السياسة الاميركية في الشرق الاوسط والعالم كله لسنوات طوال مقبلة. ستكون فرنسا بذلك قد اختارت بدء دحرجة كرة الثلج في محاولة طموحة لحشد اكبر عدد ممكن من القوى العالمية من اجل رسم خط واضح امام ما تراه باريس (وآخرون) أنه محاولة اميركية للسيطرة على الشأن العالمي. إلى اي حد ستحتمل فرنسا كلفة مثل هذا الموقف؟ إلى اي حد ستنجح في إقامة تحالف عالمي مساند من القوى الرئيسية ودول العالم الثالث والدول العربية؟

وإلى اي حد سيصبح هذا الموقف سياسة طويلة الأجل لا ترتبط بشخص الرئيس القاطن في الاليزيه؟ كل هذه اسئلة يصعب الاجابة عليها في هذه المرحلة.

بيد ان الازمة العراقية فتحت الباب ايضا لأسئلة جوهرية وأساسية عن النظام العربي الرسمي القائم. لقد بني النظام العربي على اساس من مؤسسة القمة التي ولدت في منتصف الستينات بعد ان هدأت وتيرة ما سمي آنذاك بالحرب العربية الباردة. منذ ولادتها، عبرت القمة عن سقف الارادة العربية الجماعية، سواء في دوراتها القوية الايجابية أو في دوراتها الضعيفة الهشة. ولكن القول بأن مؤسسة القمة كانت دوما عاجزة وفاشلة وعديمة الفعالية، وانها مجرد منتدى لاستعراض الانقسام العربي المستفحل، هو غير صحيح. الحقيقة ان كل دورات القمة العربية السابقة تقريبا اسفرت بشكل أو بآخر عن فعل عربي، فعل صغير ومحدد أحيانا وفعل ملموس في احيان اخرى. لقد اخذت القمة قرارات ذات طابع عملي بتحويل افرع نهر الاردن، ووقفت إلى جانب مصر وسورية والاردن في اعقاب هزيمة يونيو/ حزيران 1967، وساهمت مساهمة فعالة في انقاد المقاومة الفلسطينية وحمايتها في الاردن ولبنان، وكانت الاطار الذي وضع نهاية للحرب الاهلية اللبنانية، ووقفت إلى جانب الانتفاضة الفلسطينية خلال العامين الماضيين. وحتى في انعقادها الانقسامي الشهير في 1995، وفرت القمة غطاء للمشارة المصرية - السورية في التحالف الدولي ضد العراق، مهما كان ذاك الغطاء هشا. ما حدث في قمة شرم الشيخ كان أمرا مختلفا تماما، وربما سيأتي يوم ترى فيه قمة شرم الشيخ باعتبارها لحظة انعطاف جوهري في النظام العربي.

انعقدت قمة شرم الشيخ، وعلى رأس جدول اعمالها الازمة العراقية، بدعوة من مصر الدولة العربية الرئيسية، وتأييد متفاوت من سورية والسعودية وعدة دول عربية مهمة أخرى. ولا يخفى ان النظام العربي في مرحلته الحالية يقوم على اساس التفاهم الثلاثي بين مصر والسعودية وسورية، الذي أنجز في منتصف التسعينات وادى إلى حال من إحياء التضامن العربي ومؤسسة القمة بعد الشلل الذي اصابهما منذ مطلع التسعينات. وانعقدت قمة شرم الشيخ وسط حال رفض عالمي وعربي منقطع النظير لمشروع الحرب على العراق، ووسط تخوف عربي رسمي (حتى في الدول المعادية للنظام العراقي) من عواقب هذه الحرب. ولكن القمة في النهاية لم تسفر إلا عن مجرد بيان ليست له اية تبعات عملية على الاطلاق. لقد عبرت قمة شرم الشيخ عن الرفض العربي للحرب، ولكن العالم كله يدرك ان الحرب ان شنت فتشن من قواعد عسكرية في دول عربية بعينها. فأي معنى اذن لبيان يرفض الحرب ولا يعالج الدور المحتمل للكثير من الدول العربية في الحرب؟ ليس هناك من شك أن مؤسسة القمة قد شهدت في ماضيها دورات بالغة الضعف والهشاشة، ولكن هذه هي الدورة الأولى التي انتهت في مجال التعامل مع المسألة الرئيسية على جدول اعمالها بمجرد بيان تظاهري لا يحمل اية تبعات عملية. بل وحتى فيما يتعلق بمستقبل العراق ذاته، وبغض النظر عن الخلاف الذي انفجر في القمة بشأن هذه المسألة، تجنبت القمة طرح أو مناقشة اي تصور عربي مشترك. لكل هذا بلاشك دلالات بالغة التأثير على مستقبل النظام العربي.

لقد صاحب حرب الخليج الاولى انقسام عربي حقيقي، انقسام رسمي حاد وشعبي ربما كان أقل حدة. الواضح اليوم انه فيما عدا الكويت فإن الرأي العالم العربي، حكوماته وشعوبه، لا يريد هذه الحرب، على رغم فقدان الود للنظام العراقي. ولكن العرب عجزوا في شرم الشيخ عن التعبير الفعلي عن هذا الموقف. فما الذي يعنيه هذا؟

ما يعنيه أولا أن الدولة العربية القطرية قد استفحلت إلى الدرجة التي أصبحت تشكل فيها خطرا فادحا وملموسا على الوضع العربي كلية وعلى نفسها واستقلالها باعتبارها دولة كذلك. في شرم الشيخ، غاب عن السياسة العربية، وللمرة الأولى منذ عقود طوال، اي مستوى من الالتزام المعنوي تجاه الوضع العربي العام ووجود العرب، بصفتهم أمة. وما يعنيه ثانيا، ان الدول العربية الصغرى قد افلتت تماما من ميزان القوى العربي الداخلي واصبحت تشكل مصدر خطر على الكيانات العربية الكبرى وعلى مجمل الوضع العربي. إن مشكلة العلاقة بين الدول الصغرى والكبرى في الساحة العربية ليست مشكلة جديدة، ولكنها ظلت دائما تحت سقف معين يمكن التعامل معه بشكل أو بآخر. منذ 1995، ومن دون اهتمام عربي رسمي وشعبي يذكر، ربط الصغار مصيرهم كلية بالقوى الخارجية وعبروا بالتالي عن عدم اكثراتهم بتقاليد العلاقات العربية - العربية وتوازنات القوى العربية الداخلية.

وقد جاءت الازمة العراقية لتضع العرب وجها لوجه امام هذا التدهور البالغ في العلاقات بين دولهم. ما يعنيه ثالثا، انه في الوقت الذي أصبحت الشعوب اكثر قدرة على متابعة الشأن العام بفضل التقدم الهائل في عالم الاتصال ونقل المعلومات، فإن المسافة بين الشعوب العربية وانظمتها قد اتسعت إلى حد غير مسبوق.

لقد اضاع العرب خلال الشهور القليلة الماضية فرصة كبرى للتحول من خلال الازمة العراقية إلى طرف مهم في الوضع الدولي ومتغيراته. وأضاعوا فرصة اكبر لمنع الحرب ومعالجة المسألة العراقية معالجة عربية.

بعد ان تندلع نيران الحرب سيواجه العرب سؤالا لا يقل حراجة عن الدور الذي يمكنهم لعبه في رسم مستقبل العراق، وفي رسم مستقبلهم جميعا باعتبارهم أمة

العدد 188 - الأربعاء 12 مارس 2003م الموافق 08 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً