العدد 1934 - السبت 22 ديسمبر 2007م الموافق 12 ذي الحجة 1428هـ

وسط تساكن أميركي - إيراني... القياصرة الروس في المياه الدافئة

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

مَنْ يقرأ الأنباء الواردة من بيروت عن تراجع منسوب التفاؤل بحصول تسوية للاستحقاق الرئاسي اللبناني، وعودة التوتر بقوّة على الساحة الفلسطينية رغم موجة التفاؤل التي رافقت انعقاد مؤتمرأنابوليس، وكذلك مَنْ يقرأ التقاريرالتي تتحدث عن الانقسام الحاد الذي حصل داخل مطبخ صناعة القرارالإسرائيلي يجد من الفائدة بمكان العودة من جديد لقراءة.

تقريرالاستخبارات الأميركي الأخير ولاسيما في ظل تطورين اثنين حصلا خلال الأيام القليلة الماضية الأوّل وهو تأجيل المباحثات بين واشنطن وطهران حول الأمن في العراق والتي كانت مقررة في بغداد، في وقت عاد أحمدي نجاد ليؤكد سروره به وليصفه بأنه استسلام! والثاني وهو قرار موسكو بالبدء بتسليم طهران الوقود النووي اللازم لتشغيل مفاعل بوشهرالذري قبل البدء بتشغيله بعدة أشهر، في وقت صرّحت فيه القيادة الروسية أنّ هذه الخطوة تشجّع طهران على التخلّي عن إصرارها على التخصيب المحلي وهو ما لقي تأكيدا أميركيا علنيا مشابها!

فرغم كلّ ما قيل عن تقريرالاستخبارات المذكور فإن القدر المتيقن من نتائجه وتداعياته على ما يبدوهو تخفيض مستوى الصراع والتوتر بين العاصمتين الأميركية والإيرانية على المسرح العراقي الذي بات يشكّل الثقل الرئيسي في الصراعات الإقليمية بحسب المراقبين بانتظارحسم سائرالصراعات والتوترات التي تحوّلت بدورها إلى صراعات ثانوية يشتبك فيها الطرفان في الإقليم على خلفية خريطة العراق الجديدة! وفي الوقت الذي سيحاول فيه كلّ طرف حسم كلّ ملف من تلك الملفات في فرصة استراحة العراق لصالحه قبل العودة مجددا إلى خوض الصراع الرئيسي على المسرح العراقي، تأتي خطوة تأخير مباحثات بغداد من الثامن عشرمن الشهر الجاري كما كانت ترغب السلطات العراقية، إلى بداية السنة الميلادية الجديدة بمبادرة من طهران على ما يبدو بحجّة المزيد من الإعداد والتعمّق لتفسّر من قبل المراقبين بكونها ناتجة عن شعور الأخيرة بالزهو والانتصار على الخصم اللدود الذي ما انفك يتهمها بالتسلّح النووي، وإذا به فجأة يخرج بتقريره الأخير خلافا لكلّ ما سبق من تحريض مكثف ما يعني تشعوره بانتكاسة استرتيجية مريرة!

غير أنّ السؤال الأهم الذي يطرح نفسه في الواقع هو: هل ينم التقريرالمذكور إضافة إلى ذلك عن تراجع استراتيجي من جانب واشنطن يتمثل في الانكفاء التام عن الملف الإيراني النووي وتهديدها بالضربة العسكرية الذي ظل مستمرا طوال العهد الثاني للرئيس بوش؟! وتاليا التراجع عن الحسم في سائر ملفات الإقليم الذي نعيش فيه نحن -العرب والمسلمين- في إطار التوجّه بالانتباه إلى الصراعات العالمية الكبرى التي بدأت تبرز مع التوثب الروسي للعودة بقوّة إلى المسرح الدولي وتحدي الأحادية الأميركية في أكثر من ملف، وأيضا بسبب الانكفاء المؤقت نحو الداخل الأميركي بسبب اقتراب موعد انطلاق السباق الانتخابي للرئاسة الأميركية؟! أم هي مجرد استراحة محارب بالنسبة للأميركي الذي لن يغمض له جفن قبل أنْ يوقف «المارق» الإيراني الأخطرعلى الأمن الدولي كما كان يصفه دوما؟!

إذا كانت صحيحة بالفعل تلك الأنباء التي تسربت من داخل أروقة مطبخ صناعة القرارالإيراني والتي تفيد بأن ثمة توافقا استراتيجيا مهما قد حصل بين القيادتين الروسية والإيرانية في الآونة الأخيرة يقضي فيما يقضي أنْ تبذل طهران كلّ ما تستطيعه من تهدئة مع المحيط القريب ومع الخصم اللدود مقابل تعهد روسي بمنع حصول إجماع دولي ضدها، وهو ما أشار إليه أحمدي نجاد مؤخرا أيضا بالتصريح بأنه لا يتوقع صدورعقوبات جديدة ضد بلاده، فإنّ ذلك يعني أنّ واشنطن قد صرفت النظر ليس فقط عن الخيارالعسكري بل وعن المواجهة مع طهران بشكل نهائي وإنها بدأت تعد العدة لـ «تكويعه» كبرى مع الدولة الإقليمية الأعظم في المنطقة عنوانها التحضير للتعايش مع «إيران الدولة النووية»!.

ذلك أنّ من بين تلك الأنباء المتسرّبة تفيد بأنّ موسكو تفكّر جديا في التحضيرالجدي لإعلان تحالف رباعي اقتصادي يعنى بشئون الغاز هو أشبه بأوبك الغاز يضم كلا من روسيا وإيران وقطر وفنزويلا كنواة أولية وإنها حصلت على تعهد إيراني بهذا الخصوص لتسليمها مهمّة استثمار مرحلتين من حقل «بارس الجنوبي» الضخم للغاز قيمته مليارات الدولارات تنفذه شركة غاز بروم الروسية، يقضي بإسالة الغاز وبيعه مباشرة من على البواخر في المياه الخليجية الدافئة!

إنّ هذا الإنجاز الروسي فيما لو تحقق بالفعل سيعتبرالاختراق الأوّل من نوعه للروس في منطقة النفوذ الغربية تقليديا والتي ظل يحلم بها قادة موسكو منذعهد القياصرة! وإذا ما أضفنا إليها الأنباء التي تتردد حول عودة الروس إلى مياه البحر المتوسط الدافئة أيضا من جديدعبرالبوابة السورية، وما يحكى حول قواعد عسكرية هناك في طرطوس أو اللاذقية، فإننا نستطيع أنْ نفهم السبب الحقيقي وراء صدور مثل هذا التقريرالاستخباراتي الأميركي ولماذا وصفه البعض بالانتكاسة الاستراتيجية!

إنّ بدء تدفق الوقود النووي الروسي نحو طهران وعدم استعجال الأخيرة في الذهاب إلى مباحثات بغداد وفشل واشنطن المتكرر في تحشيد إجماع دولي لتشديد العقوبات على طهران فضلا عن إقناع العالم والرأي العام الأميركي بالخيارالعسكري ضدها، لا يمكن قراءته إلاّ في هذا السياق كما يقول العارفون ببعض خفايا ما يدور في الأروقة الخلفية التي بدأت تتحكّم بمعادلة الصراع الأميركي الإيراني من جهة والأميركي الروسي من جهة أخرى!

ثمة مَنْ يرى في هذه الأثناء أنّ تحولا استراتيجيا بدأ يتبلور شيئا فشيئا وإن ببطء في العالم القديم الذي لاتزال تمسك أميركا بزمام المبادرة به وهو تحوّل يوحي بأنّ أزمنة القيادة الأحادية للعالم وسيادة أوهيمنة القطب الواحد في العلاقات الدولية وشنّ الحروب الاستباقية على كلّ مَنْ يخرج على الإرادة الأميركية بدأت تنهار، هذا فيما يظهر أنّ ثمة تحولا استراتيجيا وإن كان يتبلور ببطء أيضا لكنه يوحي بأنّ أزمة مختلفة بدأت تتجمع خيوطها في أكثر من عاصمة في العالم أهمّها موسكو وطهران اللتان تبدوان أكثر من حليفينِ استراتيجيينِ في هذه الأيام تنهض من وسط ركام أو حطام سفينة الإمبراطوريين الجدد التي غرقت في العراق!

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 1934 - السبت 22 ديسمبر 2007م الموافق 12 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً