العدد 194 - الثلثاء 18 مارس 2003م الموافق 14 محرم 1424هـ

ما خلفيات التمرد الجديد في غرب السودان؟

نذرٌ بشر مستطير في منطقة دارفور

خالد عبدالله comments [at] alwasatnews.com

في الوقت الذي ينتظر فيه الناس بفارق الصبر سماع اخبار جديدة عما تتمخض عنه المفاوضات الجارية بين وفدي الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان في احدى المدن الكينية برعاية اميركية بريطانية تفاجأ الرأي العام العربي والعالمي ببيان آخر يعلن ميلاد (جون قرنق) جديد وان اختلفت المسيمات والأهداف والطريقة التي اعلنت طبيعة الميلاد فإن البيان الصادر عن حزب العدالة والمساواة يؤكد انه احتل (عسكريا) مدينة (جبل مرة) من اشهر واجمل المناطق الطبيعية في القارة الافريقية لما لها من طبيعة خلابة وهي المنطقة الوحيدة في هذا الجزء من القارة الافريقية التي تمتاز بطقس البحر الابيض المتوسط، و(جبل مرة) إذ تتمركز فيها القوة المتمردة تمتد داخل ولايات دار فور الثلاث وهي عبارة عن سلسلة جبلية يبلغ ارتفاعها حوالي 1300 قدم فوق سطح الارض ويتخللها عدد من منابع المياه.

دار فور بولاياتها الثلاث تغطي الجزء الغربي من السودان وتمثل مساحتها (خمس) 1/5 مساحة السودان إذ تبلغ مساحتها الكلية 549 ألف كيلومتر مربع وتعادل مساحتها فرنسا، ارض بكرة صالحة للزراعة، اما تعداد سكانها بحسب آخر إحصاء سنة 1999 فقد بلغ اكثر من اربعة ملايين.

تقع ولايات دار فور في اقصى غرب السودان بين خطوط طول 22 و27 شرقا وخطوط العرض 10 و16 شمالا، وتشارك الحدود السياسية كل من ليبيا وتشاد وافريقيا الوسطى. وتقول بعض الكتابات التاريخية ان (دار فور) كانت دولة مستقلة ذات سيادة خلال الفترة من 1650م حتى 1971 وكانت تسمي نفسها (سلطنة دار فور) والتي حكمها السلطان الشهير علي دينار. ومنذ العام 1917 وحتى ما بعد استقلال السودان عن بريطانيا لم تشهد دار فور سوى محاولات ضئيلة لتنميتها اقتصاديا وساهمت الحكومات السودانية المتعاقبة في الربط الدائم للمنطقة بالنزاعات والجفاف والمجاعات والجهل والامية المتفشية بين الناس ولم يكن التخلف الاقتصادي وحده السبب في ما آلت اليه الامور وإنما على المستوى السياسي والثقافي وبسبب تجاهل الحكومات المركزية السودانية للمنطقة حتى تم عزل دار فور عن باقي مناطق السودان، وتأثرت هذه المنطقة بالتقلبات السياسية السودانية التي بدورها ساهمت في هذه العزلة علاوة على تطبيق سياسات خاطئة غير مدروسة من قبل الحكام الذين تعاقبوا على حكم البلاد.

- في عهد الرئيس السابق جعفر نميري وفي العام 1982م اقم تطبيق نظام الحكومات الاقليمية في السودان الذي ادى إلى تخلف التنمية الاقتصادية في المنطقة وجعل العزلة السياسية والثقافية النسبية في السودان واقعا ملموسا، ومنذ زوال نظام الرئيس جعفر نميري وحتى انقلاب الاسلاميين بقيادة عمر البشير في يونيو/ حزيران 1989م شهدت دارفور قمة الفوضى السياسية والامنية ولعبت فيها الاحزاب السياسية السودانية الدور الكبير في اراقة الدماء بين ابناء المنطقة من خلال ما تملكه من ادوات الصراع السياسي والاستفادة من المنطقة في تكبير (كوم) الاحزاب حتى تتمكن من السيطرة على مقاليد الامور في السودان. وشهدت تلك الفترة تدخلات من خارج الحدود السودانية للمجموعات المسلحة في دول الجوار التي استغلت الغياب الأمني والعسكري لتتخذ من دار فور ميدانا لصراعاتها المسلحة.

والسؤال الذي يبرز الآن ما ابرز اهداف التمرد الجديد الذي اشارت إليه هذه الصحيفة في مقال سابق لكاتب هذا المقال بتاريخ (3 يناير/ كانون الثاني 2003م) ومن خلال متابعة ما يجري هناك إذ حذر من ظهور تمرد جديد في حال تجاهلت الحكومة ما يجري في تلك الارض من إراقة للدماء وغياب للأمن، وهذا ما قد حدث!!

حركة التمرد الجديدة

من خلال ما اعلنته الحركة الجديدة عبر قائدها انها لا تسعى إلى انفصال (دار فور) عن بقية ارجاء السودان مشددا على انها حركات وحدوية تعمل للتكامل مع الحركات الاخرى الموجودة في جنوب السودان وجبال النوبة وشرق البلاد والاحزاب والمنظمات السياسية في الوسط والشمال كما اعلن ايضا زعيم حركة التمرد في دار فور التي سيطرت على (جبل مرة) ان حركته ليست انفصالية وان كل ما تطالب به هو توزيع عادل للسلطات.

وفي تصريح لصحيفة (الحياة) قال رئيس «حركة العدل والمساواة» السودانية خليل ابراهيم: «ان حركتنا ليست انفصالية نطالب فقط بتوزيع عادل للسلطات والثروات». وأضاف «ليست لدينا مشكلة دين فنحن مسلمون وليست لدينا مشكلة هوية ولا قضية عنصرية، قضيتنا هي قسمة السلطة والثروة بعدالة ومساواة».

وتابع ان «أقاليم السودان كلها متضررة فمنذ الاستقلال حكم السودان 12 رئيسا جميعهم من الاقليم الشمالي ولم يرأس السودان اي شخص من دار فور أو الشرق أو الجنوب». وفي اكثر من حديث له أكد زعيم التمرد الجديد ان الحرب ستستمر حتى تحصل اقاليم السودان على حقوقها مضيفا: «لدينا شعور عميق بالتهميش والاضطهاد الاجتماعي والظلم السياسي والابتراز الاقتصادي». وعن علاقته بالحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة العقيد جون قرنق اجاب: «نتحدث عن الظلم الواقع على غالبية ابناء السودان وهناك تنسيق ونتفق معهم على ان في البلد ظلم واستعمار ونتفق معهم على الوحدة ولكن إذا اتجهوا إلى الانفصال فهذا ليس خطنا»!!

المتابع للحوادث في السودان في الفترة الاخيرة يلاحظ ان كل الدلائل تشير إلى ان الحكومة السودانية وعلى رغم ما يصدر عنها من اخبار ومن أفكار تحاول عبرها ان تقول ان الاوضاع بعد استخراج النفط وتصديره في طريقها إلى الاحسن والافضل كما تصور ذلك الاقلام الحكومية والاجهزة الرسمية فإن الحقيقة الواضحة كالشمس تقول بغير ذلك وقد صدر احد التقارير الدولية اخيرا اشار إلى ان الحكومة السودانية تنتهك الحريات الصحافية بعد ان اغلقت السلطات الامنية هناك احدى الصحف اليومية السياسية (صحيفة الوطن) من دون اي مسوغ قانوني أو قضائي، لذلك تبقى الصورة الحقيقية غائبة ومن اجل ذلك يحدث ما يحدث من اراقة للدماء في اماكن كثيرة من السودان الواسع الانتشار، ومنطقة (دار فور) بالذات دون مناطق السودان الاخرى ظلت على الدوام تقدم الشكاوى والتحذيرات إلى الحكومة الاتحادية في الخرطوم حتى تصل النجدة لايقاف نزيف الدماء. ولإنهاء التجاوزات الحكومية سواء في المال العام أو استخدام القوة لغير ما خصصت له آنذاك تعج الخرطوم بخلافات الحاكمين التي أصبحت غير خافية على احد بل تتناقلها الديوانيات هنا وهناك ومنها ما يخرج للشبكة الدولية ـ الانترنت ـ لتصفية الحسابات ومحاربة الخصوم، وفي هذا الوقت اجتهد ابناء دار فور المقيمون في العواصم الولائية وخصوصا ولاية الخرطوم بعقد الاجتماعات في الهواء الطلق حتى يبينوا لأهلهم ما يجري في مناطقهم وكانوا بين فترة وأخرى يقابلون المسئولين الاتحاديين ليشرحوا قضيتهم، ولا يجدوا إلا الوعود الكاذبة واحيانا الزيارات عديمة الجدوى والتي «تزيد الطين بلة».

لماذا دار فور...؟

- دار فور تلك البقعة العظيمة من السودان التي كانت يوما ما تصنع كسوة الكعبة المشرفة وترسلها من اقاصي غربي السودان إلى مكة المكرمة وهي مزينة بأجمل وأغلى انواع القماش السوداني الاصيل وأروع ما صنعته ايادي السودانيين في ذلك التاريخ... هذه المنطقة - دار فور - عانت كثيرا في عهد (الانقاذ الوطني)، النظام الذي جاء مبشرا بالمشروع الحضاري (الاسلامي) وقد دفع في سبيل تصدير هذا المفهوم المليارات من مال الشعب السوداني وعشرات الآلاف من النفوس الذكية، ولكن للأسف كان اكثر الانظمة التي زادت الحال سوءا لولايات دار فور وللمناطق الاخرى التي تشبه دار فور في الحلم والتاريخ. إذ صنعت (الانقاذ) من العنصرية والقبلية نيرانا تستعر لتحرق أهل السودان الذين اشتهروا بإفشاء السلام بينهم.

وقد بذلت الحكومة الجهد الأكبر في اعادة القبلية وتعطيل المؤسسات المدنية بجانب اعطاء المشروعية والمسئولية للقبيلة بدار فور وأوكلت اليها المهمات الادارية والامنية وباركت تحت اشرافها تسابق القبائل في تجميع شتاتها استعدادا للمناطحة في الحق على الارض والمكتسبات السياسية وحماية ذاتها من اخطار الاخريات. وقد انتظمت هذه القبائل في مؤسسات عرقية بتشجيع السلطة وإشرافها، فأسست أماناتها المتخصصة وهيآتها الاستشارية وتنظيماتها التي اوجدت لها التمويل واستقطبت لها الاشتراكات وإلى جوارها مضت الدولة في تقليص دور المؤسسات المدنية وتشريد كفاءاتها. وقامت بإعادة تقسيم وترسيم الارض للقبائل ولم تراع في ذلك خصوصيات الادارة (الأهلية) بدار فور بما يتطلب مراعاة الحدود القبلية والادارية للعشائر المتعارف عليها منذ استقلال السودان، ولم يكن غريبا ان يشاهد الناس فيما عرف ببيعة اهل القبائل لرئيس الجمهورية إذ كانت تحتشد بين الاسبوع والاخر في (القصر الرئاسي) أو (قاعة الصداقة) في الخرطوم حشود القبائل لاعطاء رئيس الجمهورية البيعة وهي بيعة للولاء كما يعرف عنها ويتم تصويرها وبثها عبر الفضائية السودانية وتصرف عليها الدولة المال الكثير «يفوق الـ 100 مليون جنيه سوداني» (حوالي 2,5 مليون دولار اميركي). هذا الاهتمام بالقبلية وتكريسها لدى الناس نتج عنه بشكل مباشر وسريع الصراع القبلي بمنطقة الجنينة (غرب دار فور) (بين قبيلة المساليت وبعض القبائل العربية).

التنمية هي عصب الحياة ومن غير تنمية لا يمكن لمواطن ان يعيش في مناطق قاحلة ليس بها حركة عمران ونماء وقد اشتهر (نظام الانقاذ) في السودان بتصفية مشروعات التنمية وتعطيل الخدمات بسوء تصريف المال العام وإساءة استخدام السلطة، فهناك مواطنون يعيشون على الزراعة والرعي في الريف وسكان المدن يعيشون على التجارة والتوظيف الحكومي والمهني. واكثر ما تعاني منه ولايات دار فور النقص الحاد في خدمات التنمية وادوات التعليم والصحة. وطوال سنوات عمر سلطة (الانقاذ) لم تجتهد السلطة لإقامة ولو مشروع تنموي أو خدمي واحد على الاقل، بل قامت السلطة بتصفية المشروعات القائمة مثل «غزالة جاوزت وخزان جديد وساق النعام ومشروع جبل مرة وهيئة تنمية غرب السافانا ولم تأت ببدائل ولها»، وتمددت المشكلة لتشمل الكثير من القطاعات وبسبب التجاوزات التي تخالف اللوائح والنظم المالية والمحاسبية، حرمت دار فور من التنمية والتطور، فأثر ذلك على قطاع التعليم والصحة والامومة والطفولة والشباب والمرأة، وظل الذين يضعون السودان في حدقات عيونهم يحذرون من خطورة استمرار تجاهل الاوضاع الملتهبة، وللأسف انه على رغم الفاجعة بظهور تمرد جديد مازالت خلافات (القادة الكبار) مستمرة ويتحدث الاعلام السوداني عن الازمة العراقية والقضية الفلسطينية ويفرد لها البرامج الحوارية.

ما حدث في دار فور من تمرد يعود سببه مباشرة إلى غياب التنمية وتجاهل صيحات المواطنين وتكريس العنصرية والقبلية الأمر الذي ينذر بشر مستطير. فأي خطر يهدد السودان بات متوقعا فما عادت الآذان تسمع ولا القلوب تعقل

العدد 194 - الثلثاء 18 مارس 2003م الموافق 14 محرم 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً