العدد 1964 - الإثنين 21 يناير 2008م الموافق 12 محرم 1429هـ

من آدم سميث إلى جون كينز

الليبرالية الاقتصادية الجديدة... (1)

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

حدث ذلك ابتداء من سنة 1929، حيث أصاب الكساد المجتمعات الرأسمالية. لقد هجم الكساد الرهيب على أميركا كالإعصار. ففقدت على أثره 25 في المئة من القوة العاملة وظائفها، وفقدت أكثر من مليون عائلة منازلها لعدم قدرتها على فك رهنها بعد مضي الفترة المتفق عليها، وأغلقت بعض المصارف أبوابها. والحقيقة إن الأزمة بدأت بوادرها منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى، إذ اكتشف السياسيون والمفكرون عجز الرأسمالية القديمة التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين عن تصحيح أوضاعها بشكل تلقائي. فبين العاك 1917 إلى الثلاثينيات جرت عدّة أمور، أهمها «انهيار التجارة الدولية عقب الحرب الأولى، تلك التي تعد من العمد الرئيسية للبناء الاقتصادي الرأسمالي» كما يرى بعض المفكرين.

وبسبب سعي كل مجتمع لتحصين نفسه بإقامة مختلف الحواجز ازداد تراجع التجارة الدولية التي بشّر بها أخيرا الرئيس الأميركي جورج بوش وسيلة لتحقيق التنمية والازدهار للشعوب. في الوقت نفسه، إن آثار الكساد قادت إلى بطالة واسعة هددت الرأسمالية في مبادئها؛ لعجزها عن تحقيق التوازن والتصليح التلقائي للأخطاء.

لقد كانت الدول الرأسمالية منذ القرن التاسع عشر حتى مطلع القرن العشرين تعيش الرأسمالية بشكلها المطلق القديم والتي أرساها آدم سميث الذي آمن بأن تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي يعطّل الحرية الاقتصادية للأفراد ويصطدم بها ويفسد الحياة الاقتصادية. ويرى سميث أن ترك التنافس بين الأفراد يأخذ مجراه الطبيعي يقود إلى تحقيق التنمية وفق قانون العرض والطلب، من دون الحاجة إلى تدخل الدولة في أي شكل من أشكال النشاط الاقتصادي، سواء على مستوى إنتاج السلع العينية أو على مستوى الخدمات، إذ إن كل ذلك - بما فيها الخدمات - تعتبر نشاطا اقتصاديا يجب أن يخضع للقانون نفسه. وباجتماع الحرية المطلقة للأفراد مع وجود النوازع الذاتية وحب الأنا، فإن الفرد حتما سيتحرك لما يجلب لنفسه المصلحة ويدرأ عنها المضرة. فالإنسان دائما ما يبحث عن اللذة ويتجنب الألم. وهذا يقوده إلى الحرص على تنمية ثروته وتكبيرها، وبالتالي إن هذه الجهود الفردية تتجمع فتكوّن في نهاية المطاف الثروة الكلية للمجتمع وتصب أخيرا في الصالح العام لتحقق التنمية.

سميث يعتقد بأن إثارة الدوافع الذاتية المادية كافية لتحقيق الصالح العام من دون الحاجة إلى استثارة الجانب الإنساني من قيم معنوية تستحث الفرد على التنازل عن شيء من جهوده وما يملك لمصلحة المجتمع ولإسعاد الآخرين، وبالتالي يُفهم من ذلك أن لا حاجة للدين وتعليماته وحثه على الإنفاق والتصدق، وأن المصلحة الشخصية - التي تعتبر الدافع الأكبر للفرد في سعيه وتحفيزه إلى بذل جهده - تقود إلى تحقيق مصلحة المجموع. وهذا يعني أن التنمية ما هي إلا تجميعٌ لجهود الأفراد الذين يتكون منهم المجتمع، والتنافس القائم نتيجة تبني اقتصاد السوق الحرة وسيادة قانون العرض والطلب كافٍ لتحقيق التوازن بين مختلف الأطراف.

غير أن أزمة 1929 نسفت هذا الفهم نسفا فجعلته قاعا صفصفا. وقد تواكبت أزمات الرأسمالية مع بداية تألق نجم الثورة الشيوعية التي تفجرت في روسيا سنة 1917، والتي قفزت في غضون عقدين من الزمن إلى مصاف الدول الصناعية الرأسمالية المتقدمة. حينها في نهاية الثلاثينيات ظهر كتاب «النظرية العامة للعمل: المال والفائدة» للمفكر الاقتصادي الإنجليزي جون كينز (1883-1946م)، الذي دعا إلى دولة الرفاه التي تعني فيما تعنيه «تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي». اشتدت آنذاك خطورة الشيوعية التي بدأ البعض في أوروبا الغربية التطلع إليها على أنها حل لما مرّ بهم من أزمات اقتصادية متوالية. فاتجهت الأنظار في الدول الرأسمالية المتقدمة إلى التخلي عن بعض مبادئ الرأسمالية من خلال تبني فكر جون كينز مخرجا وحيدا الذي أثبت في تلك الظروف جدواه. حينها تمكنت الدول الغربية من سحب البساط من تحت أرجل الشيوعية حين اقتفت سياسة قائمة على العدالة الاجتماعية والعناية بالطبقات الدنيا وتوفير الخدمات الضرورية. وهذا رفع العمل والعمال في أوروبا الغربية فوق ما يحلم به نظراؤهم في الدول الاشتراكية الشيوعية. كذلك تبنت الدول الرأسمالية الضمان الاجتماعي لمن عجز عن الكسب سواء لعدم توافر الوظيفة أو العجز الذاتي. ويذكر بعض الباحثين أن «أول مظهر رسمي للضمان الاجتماعي كان سنة 1941 حين اجتمعت كلمة إنجلترا والولايات المتحدة في ميثاق الأطلنطي على وجوب تحقيق الضمان الاجتماعي للأفراد».

وهكذا استطاعت الدول الأوروبية الرأسمالية المتطورة التغلب على مصاعبها الواحدة تلو الأخرى. فخرجت أقوى من ذي قبل، ودخلت دورة من النمو الاقتصادي كبير جدا «حتى إنها تخطت لأول مرة المعدلات الأمريكية المعاصرة في النمو، وتفوقت عليها». إذا، الدول الرأسمالية المتقدمة استجابت للمتغيرات والتحديات، ولكن ذلك تمّ بعد أن تخلت عن بعض أهم مبادئ النظام الرأسمالي التي تمنع تدخل الدولة سواء في نطاق إنتاج السلع أو الخدمات. لقد تدخلت الدولة في حرية السوق عن طريق فكر كينز فتبنت سياسة مالية ونقدية؛ للتأثير على العرض والطلب بحيث يتجنب الكساد مرة ويقضي على التضخم مرة أخرى، وبذلك لم يعد إنفاق الدولة محايدا. كل ما سبق يعني فيما يعنيه أنه تم تعطيل نظام حرية السوق بدرجة ما، وخصوصا في نطاق تدخل الدولة في تقديم الخدمات، بجانب التأثير على السوق بواسطة السياسة المالية والنقدية وإنفاق الدولة.

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1964 - الإثنين 21 يناير 2008م الموافق 12 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً