العدد 217 - الخميس 10 أبريل 2003م الموافق 07 صفر 1424هـ

وستدفعون فاتورة الحرب...

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

تدور دورة التاريخ بما يشبه الانتظام، وها هي بغداد تدك على رؤوس أهلها، بينما جحافل التتار تستمتع بلذة القتل والتدمير والدماء... بالامس كانت البصرة، مسرحا لهجوم كاسح ومقاومة عنيدة، لكن القوة الباطشة قهرت البصرة، مثلما تعوّدت عبر مراحل التاريخ، لتعود وتنتفض ثم تتمرد، وتعدي الكوفة والنجف وكربلاء وبغداد، هكذا فعلت دائما البصرة حين قدمت إلى العراق والدولة العباسية المزدهرة، وإلى الحضارة العربية الاسلامية، قوافل متتالية من الثوار المتمردين، ثوار السلاح وثوار الفكر... من ثورة المعتزلة، أهم مدرسة فكرية فلسفية اجتهادية في التاريخ العربي الاسلامي، إلى الجاحظ وابي نواس وسيبويه والفراهيدي وحسن البصري وواصل بن عطاء والخليل بن أحمد وابن المقفع...

وكذلك فعلت بغداد عاصمة الخلافة العباسية، ومنارة الازدهار التي كانت، ثم بادت بعد ان انحلت وتفككت من الداخل، وأكلها سوس الفساد والطغيان... فجاءها التتار القدامى أمس والجدد اليوم يدكونها على رؤوس أهلها الابرياء المطحونين بين حجرين، المحروقين بين نارين...

ربما يصبح من العبث السياسي والسلوك غير الاخلاقي، ان يتفرغ كثيرون اليوم، «بعد خراب مالطة» لصب جام غضبهم على نظام صدام حسين، واتهامه بأبشع التهم بما فيها تهمة تدمير العراق وطنا ومجتمعا وشعبا... بينما كان بعض هؤلاء يتغنون بهذا النظام حتى الأمس القريب، ويستمتعون بهداياه وعطاياه.

صحيح ان النظام مسئول، ليس فقط منذ خطيئة غزوه للكويت العام 1990، ولكن قبل ذلك بممارساته ضد الشعب العراقي نفسه قبل غيره، وبعد ذلك ايضا، ولكن انقلاب مديح الامس إلى ذم اليوم، بعد ان اشتعلت النار في الدار وأكلت كل ما فيها، هو الذي يثير الغيظ، مثلما يثير الحيرة أمام ظاهرة تعمد خلط المفاهيم في الساحتين السياسية والاعلامية، وتقلب المواقف كتقلب الاهواء وجموح الانواء...

ومن باب خلط المفاهيم، ما يردده المتأمركون العرب، من ان كل من يعارض الحرب العدوانية الاستعمارية بقيادة الولايات المتحدة، ضد العراق، إنما هو حليف لصدام أو عميل لنظامه، أو أن كل من يدافع عن حق العراق في صيانة استقلاله ومقاومة جيوش الاحتلال والاستعمار الجديد، هو بالضرورة ضد مصالح الكويت ومشاعر اهلها، الذين سبق ان اكتووا بنار الغزو العراقي، أو أن كل من يتظاهر ضد الحرب الاميركية، إنما يضر بالأمن القومي لوطنه...

ولأننا من بين أولئك الذين يرفضون بقوة وثبات هذه الحرب الاستعمارية، ويدافعون عن حق الشعب العراقي الأصيل في حريته واستقلاله وسيادته على وطنه وثروته، ويعملون دوما على صيانة الأمن القومي للوطن، فإننا لا نرى حربا ولا نشعر بنقص أو نخاف معايرة، ونحن نفعل ذلك جهارا نهارا لأننا لم نكن اصدقاء او حلفاء لأي نظام عربي، بما فيها النظام الصدامي، ولولا الحياء لقلنا الكثير، ولكن كيف تسمح حتى مهاترات العبث السياسي والسلوك غير الاخلاقي ان نفعل الآن، بينما العراق كله بشعبه ونظامه وجيشه ومؤسساته يحترق حتى الرماد على ايدي التتار الجدد!! فدعونا إذن من لعبة خلط المفاهيم، إلى ما هو أهم وأخطر...

وسط لهيب معركة بغداد وغيرها، عاد السؤال القديم يتجدد، من يدفع فاتورة هذه الحرب العدوانية الاستعمارية، المدمرة غير النظيفة، التي لايزال فلاسفتها يسمونها حرب حرية العراق، الحرب العادلة النظيفة؟...

وقبل ان نجيب اجتهادا نقول، إنه مهما كانت النتائج العسكرية لهذه الحرب العاتية، فإن نتائجها السياسية والنفسية هي الاهم والاخطر، فالكل يدرك من البداية إلى النهاية، ان اميركا حشدت كل قواها الامبراطورية الباطشة وجندت كل حلفائها وأصدقائها العرب والاعاجم والفرنجة، لغزو وقهر واحتلال دولة بحجم العراق..

ومهما كانت تقديرات الخبراء لقدرات العراق العسكرية، فإن الواضح ان قدرات اميركا وجبروتها وغطرسة قادتها اليمينيين، قادرة على غزو وقهر واحتلال عشرة اقطار مثل العراق في وقت واحد، وهي بذلك قادرة على تنصيب حكومة عميلة لها «وقرضاي» مطيع لأوامرها، وقادرة على اخضاع الشعب العراقي لسطوتها، وقادرة على تدمير كل معالم حضارة هذا الشعب القديم البابلية والآشورية والعربية...

لكنها في النهاية لن تستطيع ان تدعي انها حققت نصرا سياسيا واخلاقيا بعد نصرها العسكري، لسبب بسيط هو انها لن تستطيع ان تنتزع من الشعب العراقي، والعرب، بل العالم كله، اعترافا بشرعية هذه الحرب الاستعمارية، ولا بقانونية نتائجها...

وربما يكون هذا الثمن هو اول الفواتير التي يجب على الشعب الاميركي والضمير الاميركي، تسديدها من الآن فصاعدا...

فبعد ان تخمد نيران الحرب العدوانية، وينقشع غبار معاركها التدميرية الرهيبة، ويتوقف صراخ المدافع وضجيج الصواريخ، وتهمد شهوة الحرب والضرب والكرب، يبدأ العقل عمله ويأخذ الضمير اتجاهه، ليكتشف - ربما بعد فوات الاوان - ان هذه الحرب الاميركية لم تكن شرعية ولا قانونية، وان معاركها الدامية وفظائعها التدميرية لم تكن اخلاقية ولا انسانية...

فإن كان ذلك متوقعا من جانب العقل والضمير الاميركيين خصوصا، والغربيين عموما، فإن المتوقع - في حديث تسديد فواتير هذه الحرب - على الناحية العربية والاسلامية سيكون افدح!

من السهل تسديد الفاتورة المادية ودفع الكلف المالية للحرب، فقد اصبح معروفا ان نفط العراق - هائل المخزون - سيرهن لعقود، سواء لهذه الكلف، تنتزعها اميركا اساسا لمصالح شركاتها واقتصادها ورفاهية مواطنيها، مثلما اصبح معروفا ان دول الخليج النفطية لن تستثنى من دفع الحساب، على غرار ما جرى في تسديد فاتورة حرب عاصفة الصحراء العام 1991 وما بعدها...

لكن الفاتورة السياسية تبقى الاهم والاخطر، وهي فاتورة لصعوبتها ونقلها سيتقاسمها الطرفان العربي والاميركي...

لا شك في ان ما فعلته اميركا خلال حربها العدوانية على العراق ومازالت تفعله، عسكريا وسياسيا ونفسيا واقتصاديا، شكل رسالة واضحة وشديدة اللهجة إلى كل الدول العربية والاسلامية... رسالة تقول هذا هو الدرس وأسلوب وطرق المعاملة... وأمامكم حرية الاختيار!

واستشعارا لخطورة هذا الانذار الامبراطوري الاميركي، سارع بعض العرب امس، ويسارع الباقون الآن، للخضوع ودخول بيت الطاعة برضا وترحاب، لكن ذلك وحده لا يكفي لاكتساب الرضا الاميركي، إذ ان قائمة المطالب طويلة، وما حكاية التطوير الاميركي للديمقراطية إلا قناع من اقنعة الاخضاع تحت جناح الهيمنة المطلقة... على رغم ان الديمقراطية التي نحبها وندافع عنها، نقيض للهيمنة...

نعم... سيدفع العرب فاتورة الحرب ضد العراق، من كرامتهم ووجودهم ومستقبلهم، من نظمهم الحاكمة وانتصارهم المستنزف، من دكتاتوريتهم وتخلفهم وفقرهم غير المأسوف عليه، كما من طموحهم وتطلعهم إلى مستقبل افضل في ظل حرية وديمقراطية حقيقية، إذا شاء الله لهم ذلك!!

بل سيدفع العرب من صميم امنهم الوطني والقومي على السواء، ذلك الذي يتهاوى ويخترق بصمت، على وقع صخب الحرب الاستعمارية هناك، والحرب الصهيونية هنا، فكلاهما جناح من اجنحة هيمنة الاستعمار الاميركي الغربي الهاجم بقوة، ليقبض على ارواحنا من دون الله...

في الحساب الختامي، وعند تسديد الفواتير، فإن العرب خاسرون في كل اتجاه، اللهم إلا إذا ثاروا على اوضاعهم الرثة، واستغلوا ما جرى ويجري من تحولات هائلة، في صوغ حياة جديدة بنظم سياسية ديمقراطية حقيقية، وبعدالة اجتماعية سليمة، ساعتها سينقلبون من خاسرين إلى رابحين جزئيا على الاقل، وإلا فإن الحزم كامل وشامل...

في الحساب الختامي ايضا، فإن اميركا والاميركيين، خاسرون، بفقدهم بريق الدور الذي لعبوه - او مثلوه - على مسرح التاريخ الحديث طوال عقود، بأنها بلد الحرية والكرامة والمساواة، وانهم دعاة الديمقراطية وحقوق الانسان...

وبعد ان اصبحوا غزاة ومحتلين استعماريين دمويين، فإن رياح الكراهية في العالمين العربي والاسلامي ستطاردهم للأبد... لقد قلنا بالامس انها «كراهية تحت الجلد»، لكنها أصبحت اليوم كراهية في نظرات العيون ودقات القلوب وقطرات الدماء وشهيق الروح...

تبقى «اسرائيل» الصهيونية العالمية، وحدها «الرابح الوحيد»، ربحت كل الأوراق التي لعبت جميعا لصالحها، ولم تضطر إلى تسديد فاتورة واحدة، في الحساب الختامي الرهيب... وتركت لكم ولهم ولنا، عذاب الضمير!

خير الكلام

يقول أبوفراس الحمداني:

يقولون لي: بعْتَ السلامةَ بالردى

فقلتُ: أما واللهِ، ما نالني خُسْرُ

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 217 - الخميس 10 أبريل 2003م الموافق 07 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً